مقالات

شرق المتوسط شرخ جديد في جدار الأمن القومي العربي

إبراهيم نوار

الأمن القومي العربي يتعرض لاختبار جديد في شرق البحر المتوسط. في خمسينيات القرن الماضي قام الأمن القومي العربي على أساس العداء لإسرائيل، باعتبارها التهديد الرئيسي. وفي ثمانينيات القرن نفسه اتفقت الدول العربية (القومية التقدمية، والقبلية الرجعية) على أن التهديد الرئيسي للأمن القومي العربي هو إيران، وليس إسرائيل، فأخذت سياسة العداء لإيران مداها بتمويل خليجي إلى الحد الأقصى وهو الحرب. الآن يتعرض الأمن القومي العربي لاختبار جديد في شرق البحر المتوسط، حيث تتبلور محاور وتحالفات جديدة. هذا الاختبار يطرح علينا سؤالا كبيرا: كيف سيكون الأمن القومي في المنطقة خلال القرن الواحد والعشرين؟

الأمن القومي العربي حاليا يخضع لأولويات خليجية، على اعتبار أن دول الخليج أصبحت عمليا هي مصدر التمويل الرئيسي للدول الفاشلة في العالم العربي. ومع زيادة اعتماد حكومات الدول الفاشلة في بقائها على المساعدات الاقتصادية الخليجية، فإن هذه الحكومات بشكل عام، تبنت الخيارات الاستراتيجية لنظرية الأمن القومي التي تعتبر إيران هي العدو الرئيسي. ويساعد على رواج هذا الخيار أن الدول العربية في المشرق، أصبحت تنقسم بين محورين، واحد تقوده السعودية، أو تحاول قيادته من الأمام. المحور الآخر تقوده إيران، أو هي تحاول قيادته من الخلف، عن طريق نفوذها داخل جماعات وتنظيمات سياسية – مسلحة في دول عربية عديدة مثل، حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وحركة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن.

الاختبار الجديد للأمن القومي العربي المتهالك، ينتقل من الخليج إلى حوض شرق البحر المتوسط، حيث تتحول ثروة الغاز إلى محور للصراع بين الدول المشتركة في هذا الحوض، وهي دول عربية وغير عربية، تتنازعها ولاءات سياسية مختلفة، وتوجهات أيديولوجية متناقضة، كما تنتمي إلى ديانات مختلفة، وتسيطر عليها مصالح متعارضة.

وعلى الرغم من أن الاشتراك في مصادر الثروة، يمثل في حد ذاته أساسا لتبادل المنافع وبناء قاعدة المصالح المشتركة، إلا أن مظاهر الصراع والاحتكاكات بين دول الحوض حتى الآن تنبئ بأن المنطقة بكل ما فيها من تنوع، ستصبح، على الأرجح، منطقة صراع، قبل أن تتحول إلى منطقة للتعاون بين دولها. العلاقات بين دول شرق المتوسط حاليا، تتداخل فيها عوامل التنوع والصراع القومي والديني، والأيديولوجي، والجيوسياسي والتكنولوجي وغيرها.

تتكون منطقة شرق البحر المتوسط من دول عربية مثل مصر ولبنان وسوريا وليبيا، جنبا إلى جنب مع دول غير عربية مثل تركيا والكيان الإسرائيلي واليونان وقبرص. هذا يعني في حالتي التعاون أو الصراع، وأيا كان الخيار المطروح على السياسة، هو السباحة في بحر من المصالح القومية المتعارضة. كما تتكون المنطقة من دول ذات أغلبية من المسلمين مثل مصر وتركيا وسوريا وليبيا، ودول أخرى يغلب على مواطنيها الانتماء إلى ديانات أخرى مثل الكيان الإسرائيلي ذات الطابع اليهودي، واليونان ذات الطابع المسيحي. وعلى الصعيد الجيوسياسي، تنقسم دول شرق المتوسط بين تلك التي تنتمي إلى منظومات دفاعية مشتركة، مثل حلف شمال الأطلسي، الذي تنتمي إليه تركيا واليونان، رغم النزاعات بينهما، ودول أخرى تربطها اتفاقات تعاون عسكري ذات طابع شديد المرونة، مثل دول الخليج ومصر، وتعتمد بعضها على قوات وقواعد أجنبية لحماية أمنها القومي. هذا التنوع يضع صعوبات كبيرة في وجه تطوير أي إطار لمنظومة دفاعية إقليمية مشتركة بين دول شرق البحر المتوسط.

وتعتبر مناطق شرق البحر المتوسط ، والخليح، والقرن الافريقي الكبير، ثلاث مناطق شديدة الأهمية في العالم من الناحية الاستراتيحية، لكنها في الوقت نفسه تفتقر جميعا إلى ترتيبات دفاعية منتظمة بين دولها. وبسبب هذا الفراغ الاستراتيجي، فإن القوى العظمي في العالم هي التي تتولى عمليا إدارة لعبة التعاون، أو الصراع الإقليمي فيها، ولا يختلف الحال في شرق المتوسط عنه في الخليج، أو في شرق البحر المتوسط.

أحد العوامل الرئيسية التي تحول دون إقامة ترتيبات دفاعية مشتركة، ونظم للأمن الجماعي المتبادل في هذه المناطق الثلاث، يتمثل في نزعة التعصب القومي العربي، الداخلي ضد الشعوب والأقليات غير العربية، والإقليمي ضد الدول غير العربية، التي تغذيها حكومات فاشلة، تسعى دائما إلى محاولة التشبث بالحكم، عن طريق تحويل طاقة الغضب لدى شعوبها إلى عدو خارجي شيطاني، لكي تنجو هي من هذا الغضب. ومع ذلك فإن هذه الحكومات الفاشلة تجد نفسها عمليا في قبضة قوى عالمية، هي التي تمسك بخيوط اللعبة، وهي التي تقرر مصير التطور السياسي والاقتصادي لدول المنطقة. وهي عندما تفعل لا تختار لمصلحة شعوب المنطقة، وإنما تختار لمصالحها الخاصة. ففي القرن الأفريقي تلعب القيادة الأمريكية دورا رئيسيا إلى جانب لاعبين إقليميين، يلعبون دورا مساندا هنا أو هناك. وفي الخليج تلعب القيادتان الأمريكية والأوروبية دورا رئيسيا في إدارة لعبة تأمين إمدادات النفط، وحماية المنشآت النفطية السعودية. وفي شرق البحر المتوسط تتقاطع مصالح كل من روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من سوريا في الشمال إلى ليبيا في الجنوب، مع دور محدود تمارسه الأطراف الإقليمية والمحلية، ذات التوجيهات الاستراتيجية المختلفة.

هذا المشهد يعني عمليا تفتيت الأمن القومي العربي بين ثلاثة أقاليم استراتيجية فرعية في العالم، هي الخليج، والقرن الأفريقي الكبير، وشرق البحر المتوسط. ونظرا لانتشار ظاهرة فشل الدولة في العالم العربي، أو في الدول المتحدثة بلسان عربي؛ فالعروبة في أصلها ليست قومية، وإنما هي رابطة لغوية، فإننا لا نجد مكانا في مستقبل الأقاليم الثلاثة لمنظومة للأمن القومي تقوم على أساس عربي. فالامن الجماعي المتبادل في الخليج، وفي القرن الافريقي، وفي شرق البحر المتوسط، يقوم بالضرورة على أساس التعاون المتبادل على أسس متفق عليها بين دول عربية وغير عربية، ودول إسلامية وغير إسلامية، ودول منتمية للتحالف العسكري الغربي، ودول هي أقرب ما تكون، بقوة واقع سياساتها وتسليحها إلى روسيا التي تبرز من جديد كإحدي القوى الفعالة عالميا، والقوة الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة في النفوذ داخل المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى بحر القرم وغرب آسيا وشرق البحر المتوسط والخليج والقرن الافريقي الكبير.

قلت إن صورة التطورات الراهنة في حوض شرق البحر المتوسط، تشير إلى غلبة خيارات الصراع على مقومات بناء التعاون. ولا يقتصر هذا الاستنتاج على الدول العربية في مواجهة الدول غير العربية، ولا على الدول المنتمية لحلف شمال الأطلسي في مواجهة غيرها، ولا حتى على إسرائيل في مواجهة الدول الأخرى. وقد نشط تيار الصراع بقوة، في أعقاب توقيع مذكرتي التفاهم في مجال التعاون العسكري، وفي مجال تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا وليبيا. وشهدت الأشهر والأسابيع الأخيرة احتكاكات بين البحرية التركية ومنصات التنقيب عن الغاز التابعة لشركة إيني الإيطالية، وكذلك بين البحرية التركية وسفن المسح الجيولوجي والتنقيب عن الغاز الإسرائيلية في المياه القبرصية، أو بالقرب منها. كذلك فإن إسرائيل أصدرت تحذيرات غير مباشرة للشركات العاملة في استخراج الغاز في المياه القبرصية تطلب منها التوقف عن العمل، نظرا لتداخل امتدادات حقل افروديت القبرصي مع حقل ليفياثان الإسرائيلي. كما أن هناك تهديدات وتدريبات بحرية على مستوى الدولة الواحدة، أو على مستوى تحالفات عسكرية، تشير إلى استعدادات لمواجهات محتملة بين بعض دول شرق المتوسط.

هذه الاحتكاكات الفعلية والتهديدات التي تجري على أرضية الدفاع عن المصالح القومية لكل دولة بمفردها، قد تتسبب فعليا في توقف البحث والتنقيب عن الغاز في مناطق جديدة داخل حوض شرق المتوسط، ووقف مشروع خط أنابيب تصدير الغاز من شرق المتوسط إلى الاتحاد الأوروبي. الأخطر من كل ذلك هو أن تهديد الإنتاج يمكن أن يتسبب في نشوب حرب إقليمية، ربما تنجر إليها أطراف أخرى غير دول شرق المتوسط، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

إن خطورة المشهد الحالي تؤكد أهمية ضرورة تحويل ثروة الغاز في قاع شرق المتوسط وغيرها من الثروات، مثل حقوق الصيد وحقوق مد خطوط أنابيب وكابلات للاتصالات وغيرها، إلى موضوع للتعاون الإقليمي، والكف عن استخدام هذه المقومات للثروات والمصالح المشتركة، كروافع للتعبئة السياسية، لصالح تثبيت حكومات فاشلة. هذا أيضا يستدعي الكف عن الاعتقاد في إمكان بناء منظومة للأمن الإقليمي المتبادل على أساس استبعاد الدول غير العربية أو غيرها، أو إقامة محاور متصارعة. الأمن الإقليمي المتبادل في منطقة شرق البحر المتوسط، بكل ما فيها من تنوع وتعددية، هو شرط أولى لإبعاد شبح الحرب، ولاستثمار ثروات المنطقة لصالح كل شعوبها بلا استثناء.

القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى