كتب

“عصر الرصاص”: حين يجتاح مرض الجذام الشمسي العالم 

تُبرز الرواية الصراع الطبقي الذي زاد من حدّته وضراوته التغيّر المناخي والإشعاعي، فالفقراء لا يملكون المال لشراء البزات التي توفر الحماية من الأشعة، ما أجَّج حنقهم على الأغنياء.
ماذا سيحّل بالإنسان وبجميع الكائنات الحية على كوكب الأرض فيما لو سيطر وباء مجهول على العالم؟ كيف سيتصرف البشر؟ وكيف سيحمون أنفسهم من البلاء والموت؟ هل الناس سواسية أمام فداحة هذا الخطب الجلل؟ هذه هي الأسئلة التي تطرحها رواية «عصر الرصاص» للكاتب المسرحي الفرنسي هنري فالك (1831-1937) التي صدرت أخيراً عن “دار فواصل” السورية بترجمة بهاء إيعالي.
تُبرز الرواية التوازن البيئي الدقيق الذي يقوم عليه عالمنا، إذ يؤدي أي خلل بسيط إلى نتائج كارثية على الإنسان والطبيعة والكون بأسره. تدور أحداث «عصر الرصاص» في دولة الغابون التي كانت آنذاك مستعمرة فرنسية بقيادة حاكم عسكري فرنسي.
تمتع حكام الغابون الأجانب بالخيرات ونعموا بالعيش الرغيد والطّيبات في بلاد أشبه ما تكون بجنّة الله على الأرض. لكن دوام الحال من المُحال، فما لبثت المشكلات والاضطرابات أن ظهرت حين لاحظ حاكم الغابون بارمسيف أن الحيوانات في المستعمرة فقدت فجأة وبرها وصوفها ثم جلودها، والطيور خسرت ريشها الجميل من دون تفسير علمي واضح.
كذلك الأمر بالنسبة إلى النباتات التي اصفرت وذبلت بشكل بائس. أما السهوب التي كانت مورقةً وخضراء فأمست تحترق وتتقشّر بمساحاتٍ شاسعة. ثم بدأ البشر يفقدون أيضاً شعر رؤوسهم وذقونهم، وفي مرحلة تالية بدأت جلودهم تتقشر وتتساقط، إضافة إلى عوارض أخرى مخيفة كفقدان البصر وفقر الدم وتقّلص الطحال وسوى ذلك.
حاول الحاكم الفرنسي بارمسيف إيجاد تفسير منطقي لهذه العوارض الغربية، ولجأ إلى مجموعة وضعت عدداً من الفرضيات السخيفة، منهم الطبيب البيطري المعروف في المستعمرة الذي أعاد أسباب الظاهرة إلى كون الأفاعي والثعابين تطرح جلودها في تلك الفترة من السنة، وقد انتقلت هذه الطفرة من الزواحف إلى البشر وأصبحت مُعديّة، لذلك بدأ الناس بتغيير جلودهم أيضاً.
وتحدث عالم في الطبيعيات عن فرضية غاز سام ينتشر في الغلاف الجوي ويُدّمر الأنسجة الحيّة ويقضي عليها. وبعد التواصل مع السطات الفرنسية تبين أنّ الغابون ليس البلد الوحيد الذي يعاني هذه المصيبة، بل كلّ البلاد على خط الاستواء وقعت تحت قبضة الوباء.
والمؤسف أن المرض تابع مسيرته وانتقل إلى البلدان الواقعة على خط العرض الثلاثين متسبباً بحالة تقشر عامّة وتسلّخات جلدية لدى السكان. شعر العلماء بالقلق وعكفوا على العمل الدؤوب لتشخيص المرض ووصف العلاج. لحسن الحظ، يكتشف ستيفان غالفو أحد علماء الفيزياء الفرنسيين، أن كل هذه الكوارث تعود إلى ازدياد نشاط الشمس الإشعاعي، وتحديداً أشعة غاما.
وقد أدى هذا الخلل إلى ظهور مرض الجذام الشمسي الذي فتك، من دون رحمة، بالنباتات والحيوانات، وضرب بقسوة البلاد الاستوائية بسبب سقوط أشعة الشمس مباشرة عليها.
تعكس الرواية بأسلوب ساخر وكوميدي الارتياح الذي شعر به الرجل الأبيض حين أصاب المرض أصحاب البشرة السوداء، وظن أنه في منأى من الخطر بسبب بياضه الناصع، ولكن ما لبثت الجائحة أن هاجمته هو وجميع السّلالات البشرية، مُحدثةً حالة من الهلع العامة.
فها هو حاكم الغابون يترك مستعمرته العزيزة، ويذهب إلى باريس لحماية أسرته من السَّقم تاركاً خلفه سكرتيره الذي أصيب بالمرض المميت. كما تُبيّن الرواية التنافس بين العلماء على اكتشاف علاج لهذا الوباء، إذ يتوصل غالفو إلى أن حل المعضلة الشمسية يعتمد على اعتمار قبعات وارتداء ثياب مُغلّفة بمادة الرصاص، فهذا المعدن الرمادي اللون هو الوسيلة الوحيدة لحماية البشر من الأشعة الضارة.
إثر هذا الاكتشاف، يبدأ التنافس بين أصحاب رؤوس الأموال للسيطرة على مناجم الرصاص في العالم بهدف صناعة خوذات ومعاطف وقفازات من مادة الرصاص، ثم بيعها بأسعار باهظة لتحقيق أرباح بملايين الدولارات. في هذا الإطار، يسرد الراوي كيف استطاع رجل الأعمال الأميركي باركليت أن يحقق مكاسب طائلة، حين عرف مسبقاً من غالفو الذي وقع تحت سحر ابنته الجميلة، معلومات سريّة حول دور الرصاص في الوقاية من المرض، فسارع إلى شراء كل المعدن المتوافر في السوق وبيعه بمبالغ خيالية جعلته من بين أغنى الأغنياء.
تُبرز الرواية أيضاً الصراع الطبقي الذي زاد من حدّته وضراوته التغيّر المناخي والإشعاعي، فالفقراء لا يملكون المال لشراء البزات التي توفر الحماية من الأشعة، ما أجَّج حنقهم على الأغنياء. وشهدت المدن عمليات عنف من نهب وسرقة للحصول على الأزياء المُدّعمة بالرصاص، وطبعاً تدخلت السلطات بقسوة لقمع تحركات المساكين، في حين استمر الأغنياء في التنعم بالرفاهية وإقامة السهرات والحفلات غير عابئين بما يجري حولهم.
أما الصغار فكانوا أكثر الناس معاناة بسبب ظهور الوباء، فحتى الأطفال من ذوي الطبقة البرجوازية حُرموا الخروج واللعب مع أقرانهم خوفاً من التعرض للأشعة القاتلة، ما أدى إلى ظهور حالة من الكآبة الطفولية العامة.
يُقدّم الراوي العليم وصفاً دقيقاً للتغيير الذي أصاب الحياة العملية والاجتماعية بعد انتشار الجائحة، إذ اضطر البشر إلى البقاء في منازلهم خلال النهار للاحتماء من ضوء الشمس أو العمل في أمكنة مُصفّحة بطبقات من الرصاص، ولجأ عدد من الناس إلى العمل والخروج ليلاً، وقد تسبب ذلك بأزمات سير خانقة واكتظاظ سكاني في المدن خلال لحظات المساء.
وتُسلّط الرواية الضوء على ازدهار معامل الخياطة التي تقوم بصناعة الألبسة من النسيج المخلوط بمادة الرصاص، فمصائب قوم عند قوم فوائد. ولكن هذه الألبسة لم تكن خياراً موفقاً دائماً بسبب وزنها الثقيل وشكلها المعدني وصعوبة التنقل بها، ما دفع أحد المصممين إلى ابتكار مظلّة مصفحة بالرصاص ليمشي المرء تحتها في أثناء ترحاله، ولكن حتى هذه المظلة كانت صعبة الاستخدام وتسببت بارباك شديد وتوتر لحامليها. وهكذا بدأ عصر الرصاص يسيطر على العالم بعد أُفول عصور البرونز والذهب والحديد مُدخلاً البشر في متاهة الأمراض النفسية والأمزجة السوداوية.
من ناحية أخرى، يستكشف الكاتب العلاقة بين مختلف عناصر النظام البيئي وأهمية المحافظة على توازنه، ويُبيّن أيضاً نظرة الإنسان الفوقية إلى الطبيعة. فهو يعتقد أنه نقطة ارتكاز الكون الأساسية، وأنه يستطيع استغلال البيئة لخدمته إلى ما لانهاية.
فعندما انتشر الوباء لم يعبأ البشر بالحيوانات وما أصابها إلا بعد أن أدركوا أنهم بحاجة إلى حمايتها، وأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها، لأنّها توفر لهم الطعام من لحم وبيض وحليب. لذلك قرروا رفع دعائم خشبية مسقوفة بالزجاج الرصاصيّ فوق مساحات كبيرة، وجمعوا الأبقار والقطعان تحتها لكي ترعى بسلام.
كما اعتمدوا الطريقة نفسها في زراعة الخضر والفواكه. وهكذا تُوَضِح الرواية، ولو بشكل غير مباشر، أهمية التناغم بين الإنسان والأنظمة البيئية المؤلفة من نباتات وحيوانات ومياه وضوء وهواء، وضرورة سلامة هذه النُظم كافة لتحقيق استقرار جميع الكائنات الحية، خصوصاً أنّ الإنسان هو المسؤول الأبرز عن تدمير كوكب الأرض بسبب جشعه وأطماعه.
والطريف أيضاً أن الراوي يخبرنا باشتداد عمليات الإبادة والمذابح بين شعوب وطوائف الدول المتخلفة حضارياً بعد انتشار الوباء، إذ ألقت كلّ جهة باللوم على الأخرى، متهمةً إياها باستحضار المرض الملعون بسبب كفرها وهرطقتها. كذلك رأى بعض المتدينين أنّ مرض الجذام الشمسي بلاء واختبار إلهي، على البشرية أن تجتازه للتطهر من ذنوبها وخطاياها المميتة.
ومع أن هنري فالك كتب رواية «عصر الرصاص» في مطلع القرن العشرين، إلا أنها ما زالت تعدّ رواية معاصرة جداً من ناحية التنبّؤ بمآسي زمننا الحالي، كما لو أن الكاتب توقع ما حدث فعلاً خلال جائحة “كورونا” من تدمير لمنظومة القِيم والأخلاق لمصلحة تحقيق المكسب المالي، بعدما تصارعت الشركات العملاقة لإيجاد لقاح وبيعه لملايين البشر مُحقّقة بذلك أرباحاً هائلة.
بيّنت الرواية أيضاً التفاوت الاجتماعي واللاعدالة والشرخ الكبير بين المُعسرين والموسرين في الأرض، فالفقراء عانوا الأمَرَّين للحصول على لقاح من أسوأ الأنواع، وجرى استثناؤهم من أنظمة الحماية الاجتماعية، في حين وفّرت الدول الغنيّة اللقاح الفعّال لمواطنيها.
«عصر الرصاص» رواية طريفة تسخر من ضعف البشر، وهشاشة الوجود الإنساني، وتُبرز الصراع الدائم بين بني آدم لتكديس الثروات، ولو على حساب صحة الفقراء وحياتهم، كما تدفع القارئ إلى إدراك مدى ارتباطه بمحيطه الطبيعي والحيوي والانتقال من الرؤية المتمركزة حول الإنسان إلى رؤية أكثر احتراماً للبيئة ومُكوناتها.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى