مقالات

عن استحالة نجاح استبدال الآلة بالإنسان

فيل ماكداف
كلما نفذت عندنا إضرابات، يحدث أمر غريب. فجأة، يتحول الأشخاص الذين يستشيرون محرك الأبحاث غوغل باقي أيام السنة لتعلم “كيفية فتح ملف بي دي أف”، إلى أشخاص يتمتعون بنظرة مستقبلية علمية ويتفاءلون بالتقدم التكنولوجي. بدءاً بالقطارات ذاتية القيادة ووصولاً إلى الشاشات التي تعمل باللمس في مطاعم ماكدونالدز، حين يطالب العامل بتحسين في الأجور وظروف العمل، يقع الجميع فجأة في غرام التكنولوجيا.
إجمالاً يمكن تصنيف محبي التكنولوجيا الوضيعين هؤلاء بحسب فئتين. غالبيتهم من السذج البسيطين الذين يعتقدون أن التكنولوجيا أشبه بالسحر، ويظنون أنهم عندما يضغطون على أيقونة على هاتفهم السحري، فإصبعهم يستدعي سيارة الأجرة أوبر، وحده. هؤلاء لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا تفاصيل البنية التحتية التقنية باهظة الثمن التي تقوم عليها العمليات الآلية الحديثة، أو حتى الموظفين الفنيين الذين يتقاضون أجوراً مرتفعة، ومن الضروري توظيفهم حفاظاً على سير عمل هذه البنية التحتية.
أما الفئة الثانية، فتتكون من أولئك الذين يدركون تماماً أن العمليات الآلية ليست مجانية، وأنها باهظة الثمن ومعقدة وتتطلب مجموعة من التنازلات والمقايضات، لكن الحقد قد أعماهم وهم على استعداد لدفع الغالي والنفيس كي يحولوا دون فوز العمال. هم يعون بأن الإضراب هو صراع على السلطة في مكان العمل، وما يهمهم هو الاحتفاظ بالسلطة لكي يملوا شروطهم على العمال.
لا شك أن هذا الموضوع ليس جديداً، وأن هذا الصراع يدور منذ نشأة الرأسمالية. منذ مئتي سنة، في بداية الثورة الصناعية، قامت مجموعة مسماة بـ”اللوديين” بتحطيم آلات النسيج في إنجلترا. لا يزال اسم هؤلاء الأشخاص ملطخاً بالعار إلى يومنا هذا، إذ يشتهرون بأنهم معارضون للتكنولوجيا الجديدة والميزات التي توفرها، أو أنهم لا يفهمونها ببساطة.
لكن جاثان سادوسكي، كبير الزملاء الباحثين في مختبرات أبحاث التكنولوجيا الناشئة- الذي يقدم نفسه على أنه لودي- يصف هذا الوضع بأنه شكل من أشكال التاريخ المكتوب من وجهة نظر المنتصر. فاللودية، برأي سادوسكي، لم تكن معارضة طائشة للتكنولوجيا والتطور، بل إن “اللوديين أرادوا أن تستخدم التكنولوجيا بطرق تجعل العمل أكثر إنسانية وتعطي العمال استقلالية أكبر”، لكنهم خسروا- هزم اللوديون، وأطلقت عليهم النيران وشنقوا، و”تسرد قصتهم لثني العمال عن مقاومة مسيرة التقدم الرأسمالي”.
من النادر أن يكون الصراع على العمليات الآلية والميكنة مجرد معارضة صرف للتكنولوجيا، إنما هو صراع على ملكية التكنولوجيا والسيطرة عليها والانتفاع منها.
فكروا بما قد يحدث لو ابتكر أحد المخترعين غداً روبوتاً لا تشوبه شائبة يمكنه أن يحل محل العمال من البشر في كل المهام الخطرة والرتيبة. في أي عالم منطقي، سيسجل اسم هذا المخترع في التاريخ باعتباره بطلاً، ومهندس العصر الذهبي.
لكننا لا نحيا في عالم منطقي، بل في ظل نظام رأسمالي تكدس فيه ثلة من الأثرياء في أعلى الهرم المجتمعي كل غنائم العمليات الآلية، وهو ما يعني بأن ذلك المخترع سيذكر على أنه أحد أفظع الوحوش في التاريخ، والمسؤول عن الإفقار الجماعي وأعمال الشغب والمجاعة والفقر بعد خسارة ملايين- أو حتى مليارات- الأشخاص لوظائفهم بين ليلة وضحاها. ربما تنجح الروبوتات بتولي أعمال المزارع والمناجم، لكن المفارقة الساخرة هي أنه لن يعود لأصحاب المزارع والمناجم عملاء يبيعونهم بضائعهم.
إن العمليات الآلية التي تخضع لسيطرة العمال أمر جيد. لقد سلمت الآلات بعض نواحي عملي بغية توفير الوقت والتحرر من العناء المتكرر، لكن في ظل الرأسمالية، نادراً ما تعني الأتمتة إلغاء الحاجة إلى اليد العاملة البشرية فحسب، بطريقة تتيح لنا المزيد من الوقت للراحة وتلبية احتياجاتنا الخاصة، بل إنها تنقل الوظيفة إلى مكان آخر وتغير شكلها- من ناسج إلى مشغل آلة النسيج، ومن سائق إلى مسؤول عن الخوادم.
حتى الفن ينجرف داخل دائرة الأتمتة التكنولوجية مع زعم نماذج “الذكاء الاصطناعي” الجديدة بأنها قادرة على أداء عمل الفنانين استناداً إلى بضعة أوصاف نصية- طالما لا يطلب منها رسم اليدين، لكن نماذج “الذكاء الاصطناعي” تعتمد على “عمل جماهيري” غير مرئي يقوم به ملايين البشر المنتشرين في كل أنحاء العالم، الذين يوسمون ويصنفون البيانات لكي تتمكن الآلات من فهمها، وغالباً ما يعملون بموجب عقود عمل منخفضة الأجر واستغلالية وغير ثابتة.
نحن نعمل ساعات أقل من أسلافنا في العصر الفيكتوري لكن ذلك ليس لأننا نحتاج إلى ساعات عمل أقل كي ننتج الحاجات البشرية الأساسية (مع أن ذلك صحيح كذلك)، بل السبب هو نضال اليد العاملة المنظمة التي نجحت في انتزاع تنازلات من طبقة المالكين- وفي انتزاع منافع الأتمتة التي لا يمكن إنكارها من أصحاب المطاحن والمصانع لتوزيعها على القوى العاملة على شكل عطل نهاية الأسبوع وعطل مرضية مدفوعة الأجر، وأشياء من هذا القبيل.
حسنت التكنولوجيا حياتنا على نحو هائل منذ أيام اللوديين، لكن خمس شعب المملكة المتحدة اليوم فقير. لن ينقذنا التقدم التكنولوجي إذا ظلت الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ينتشر في سياقها قائمة على الاستغلال وعدم الثبات.
في المملكة المتحدة، يعد التهديد بـ”أتمتة وظائفكم” فارغاً إجمالاً ولا سيما في مجال النقل. لا يزال من الصعب فعلياً توكيل الآلات بأداء كل جوانب عمل سائق القطار بطريقة موثوقة وآمنة، حيث لا تسفر الأخطاء عن رسومات غريبة للأصابع، بل عن خروج القطارات عن السكة ووقوع وفيات.
ولم تتحقق هذه الأتمتة سوى في شبكات منعزلة مثل شبكة السكك الحديدية الخفيفة دوكلاندز، لكن حتى في هذه الحالة، تظل الحاجة إلى البشر موجودة كإجراء احترازي. ولو بلغت التكنولوجيا مستوى من التقدم يسمح للآلة بقيادة قطار فائق السرعة من لندن إلى مانشستر بأمان ومن دون إشراف بشري، من غير المرجح على الإطلاق أن تلتزم الحكومة البريطانية إنفاق مليارات الجنيهات التي يتطلبها عمل هذه الآلة. لم نمد السكك الحديدية كاملة بالكهرباء بعد.
ما زلنا على بعد عشرات السنوات- في أفضل تقدير- عن نوع التحسن الذي تحتاج إليه البنية التحتية لكي تنجح عملية الأتمتة. ويرجح أن يكون عمال السكك الحديدية المضربون اليوم قد تقاعدوا قبل أن تنفذ هذه الحكومة البخيلة وجيشها الفاسد من مقاولين لصوص عديمي النفع أي خطط نحو التحول الآلي.
ومن دواعي السخرية أن أفضل السبل لتحسين التكنولوجيا والبنية التحتية هي التعاون مع العمال الذين يستخدمونها، والقادرين على توجيه التقنيات الجديدة بطريقة منطقية، بدل العداوة غير المجدية التي تجعل أصحاب العمل والحكومات يعتمدون على المخادعين والنصابين الذين يعدونك بالمستحيل ولا يقدمون لك سوى الفواتير.
لكن لا أحد من بين الذين يهددون العمال بروبوتات تكسر إضرابهم وتحل محلهم يريد مستقبلاً يسود فيه التقدم التكنولوجي أو يؤمن به حتى، ما يريدونه هو قوى عاملة خائفة وخانعة، لا تبارح مكانها خوفاً من تهديد الفقر في حال تجرأت على تعدي حدودها.
لم يهزم اللوديون لأن التحول الآلي تفوق عليهم ببساطة، بل قتلوا. وإذا ما انتهى إضراب السكك الحديدية بالهزيمة، فلن يكون السبب هو أن التحول الآلي “السحري” ألغى الحاجة إلى “الديناصورات الذين يتقاضون أكثر مما يجب” بل لأن الحكومة قررت أن الخدمة الأسوأ والأقل أمناً وموثوقية هي ثمن يستحق أن يدفع لمنع حصول العمال على المزيد من السيطرة على وظائفهم وظروف عملهم.
سوف يبيعوننا مستقبلاً تكنولوجياً يقوم على قطارات تسيرها الروبوتات وسفر لا يقطعه إضراب لكن ما سيقدمونه فعلاً لنا هو شبكة متهالكة ومنفصلة من القطارات الهرمة والسكك الحديدية المتصدعة التي لا يمكننا تحمل كلفة استخدامها.
اندبندنت عربية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى