مقالات

في ذاكرة المحو والحرق والموت المبرمج

 

واسيني الأعرج

كلما تحدث أحد عن المأساة العربية التي تلوح في الآفاق، قيل له إنك تزرع التشاؤم واليأس، وكأن كل ما يحيط بنا بخير! لا يعرف العالم العربي اليوم، حكاما وشعوبا، أن موتهم أصبح مبرمجا من أوساط لا تريد لهم الخير. بعد أن قسموه في اتفاقيات مفضوحة (سايكس بيكو) وجردوه من قوته الممكنة، وخرائطه، وفرضوا عليه خرائطهم الجديدة التي أنشأوها بمسطرة وقلمين، أزرق وأحمر، وخطوط غائرة مثل الجروح، ها هم اليوم يذهبون إلى أبعد من ذلك: تجريده من ذاكرته، ومن أي وسيلة دفاعية، ليزجوا به نحو تيه لن ينتهي إلا باضمحلاله، لا حل أبدا. على العرب أن يحفروا في مادتهم الرمادية وتخيل الحلول الممكنة، قبل فوات الأوان، خارج الرهانات الدولية.

حرب الذاكرة معروفة منذ غابر الأزمنة، فقد كانت الاستعمارات القديمة تذهب نحو رمزيات المنطقة الدينية والاجتماعية والثقافية، ونحو المعابد والمذابح، وتقوم بتدميرها كليا، بحيث يتم محو الذاكرة الجمعية، لأنها هي ما تبقى من الروابط الاجتماعية والدينية التي تنظم المجتمعات وتحافظ على سيرورتها التاريخية. لم تكن المجتمعات الأولى بدائية كما يصورها العقل الغربي الاستعماري الأبيض والمتغطرس، فقد كانت لها طرقها في الحياة وتجاربها وممارساتها وطقوسها.

من نتائج الدمار الذي خلفه كريستوف كولمبس وراءه هذا المحو المنظم الذي جعل من الهنود الحمر شعبا تائها، بلا أرض ولا ثقافة ولا تاريخ، ولا ذاكرة تجمع شتاته باستثناء ما حفظه المسنون أو بقايا علامات تُرى من السماء أكثر مما تُرى من الأرض، لكن هذا كله لا يعوض الملمس وبقية الحواس حتى تستديم الذاكرة، فذاكرة اللمس والنظر والذوق مهمة، وربما أهم بكثير من السماع الذي يظل تجريديا. ولهذا حين نسأل اليوم ماذا بقي لنا من الحضارات القديمة، تقريبا لا شيء، فكل ما كان واقفا دُمّر ونهب، إلا عديم الجدوى، بالمعنى المادي. كل الأمم التي تحترم وجدانها تعلمت بسرعة كيف تحفظ ذاكرتها أو تستعيدها بعد أن دمرتها الاستعمارات المتتالية، لأن هناك حياتها ومقتلها أيضا. لا توجد دولة أوروبية واحدة لم تستعد تراثها بكل تناقضاته، ووضعته رهن تصرف الأجيال لتدرك أنها تنتمي إلى أرض وثقافة وشعب وتاريخ، إلا الشعوب العربية، والأسباب واضحة. للاشكال امتداد ديني يحتاج إلى رصانة كبيرة وتبصر حقيقي، وإعادة قراءة لتاريخ الأديان.

إن تحطيم ما سمي بالأصنام ليس في النهاية إلا تدميرا للأديان الأخرى وللتماثيل التي تمثلها، مثلما حدث مع غالبية الأديان التوحيدية وغير التوحيدية كالديانات الإفريقية والآسيوية، مهما كانت المبررات الدينية المعلنة والمتخفية. وهذا ليس قسرا على المسلمين، فقد كان دارجا في الحروب القديمة، فحرق المعابد والمراكز الدينية جزء أساسي من الحروب، وطبعا، لم تشذ تماثيل مكة عن هذا التدمير. نعرف القليل جدا في هذا السياق، لأن العقل الديني المغلق كان يغطي كل شيء بالأيديولوجية.

نعيش في زماننا الحالات نفسها التي تمارس بالعقلية نفسها، وليس داعش إلا الصورة العالية للكره المنغرس من القديم إلى اليوم ضد التماثيل، وضد الفن لكونه أداة للانحراف، وفق هذا المنطق. هذه الممارسة، للأسف، استمرت في الوجدان الإسلامي، ولم تسم أبدا باسمها، وظلت مرتبطة بفكرة الأصنام والإيمان والشرك، ولم يدخل الفن كعامل للحفظ إلا في فترات قليلة. وأعتقد أن الأراضي العربية تخفي الكثير من الآلهة الصغيرة التي لم تطلها آلة التدمير، في الصحاري والفيافي ونحتاج إلى عقل آخر يسمع لنا باسترجاعها وقراءة تاريخ منطقتنا والدفاع عنه بعقل وتبصر.

حب الأوطان ليس شعارا أو خطابا، لكنه معرفة. وهذا تقليد ظل دارجا إلى وقتنا بإخفاء التماثيل الدينية تحت الأرض. عندما بدأت بوكو مرام في حرق طومبوكتو أخفى كبار العلماء أهم المخطوطات تحت الأرض كما كانوا يفعلون دائما، إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه. لا وعي لدينا بمخاطر المسألة، فإسرائيل سبقت العرب في هذا بعشرات السنين، وبنت تاريخها، حتى الوهمي منه، واعتمدت الحفريات لتثبت أهليتها للأرض التي استعمرتها، على الرغم من امتلاكها القوة العسكرية التي تؤهلها لفرض نفسها بالحديد والنار، لأنها تعرف جيدا أن الأزمنة المقبلة والأجيال التي لم تعش الحروب العربية- الإسرائيلية، لا تكتفي بالكلام، ولا تكفي فيها القوة والجبروت، ولكن التاريخ، حتى ولو كان مركبا، هو الذي يؤصل الأشياء ويترسخ في الأجيال التي إذ تحارب دفاعا عن أرض، تكون مقتنعة أنها أرضها بكل تاريخها وغناها. تاريخنا العربي اليوم محكوم بالبطولات الفردية أو العائلية الزائفة، وبالأيديولوجيات القاتلة التي تعيد النقاشات دوما إلى نقطة البدايات، وثبّتت الديكتاتوريات والتاريخ المصنعة فحولته إلى شرعيات مغلوطة لها، ولا يوجد وطن وأرض إلا الخطابات. جوهر المسألة علمي كليا، وإن قراءة الصخور والأديان والطرق التجارية المدفونة تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الأراضي العربية كانت معبرا للقوافل المحملة بالحياة والحاجات الروحية والبخور التي كانت قيمتها تضاهي الذهب اليوم. بلا بخور، لا ولائم، لا معابد، لا بيوت، لا قصور، ولا طرد للأرواح الشريرة. وهذه المسالك تعيد التاريخ إلى الواجهة، فبعدما استقر المسلمون في أراضيهم وأراضي الفتوحات، خف التحطيم، وإلا كيف بقيت المعالم الفرعونية والرومانية قائمة، وجزء كبير من الحضارات التي تلت. العقل الإسلامي الذي اشتبك بالحضارات الأخرى أخذ منها الكثير وألِف البقية، وإن بقيت بعض التيارات الدينية إلى اليوم متجمدة ومنغلقة في نموذج ميت تكذبه الحقائق التاريخية. ما يحدث اليوم رمي عصفورين بحجر؛ تدمير الحضارة وإرضاء الجهلة. أصبحت داعش أهم أداة في أيدي غرب استعماري جديد، فهو من درّبها وهو من أنشأها وسلّحها، ولا يقبل مطلقا بأي تنوير عربي. أهم وسيلة لذلك، ترسيم الدعشنة وتحويلها إلى نظام لتدمير البشر والتاريخ. وكأننا في مسرحية تراجيدية مخرجوها معروفون اليوم، هم الذين خلقوا القاعدة ثم محوها، ثم خلقوا داعش ويحاولون أن يطيلوا ما تبقى من عمرها ريثما يتم تدمير ما بقي واقفا من الهمجية غير المسبوقة. ماذا بقي اليوم من ذاكرة العراق وسوريا وليبيا واليمن بعد مرور الدواعش أو أشباههم في ذهنيات المحو؟ ماذا بقي بعد تدمير الذاكرة الواقفة وسرقة الآثار التاريخية النادرة وبيعها بأبخس الأثمان؟ تلك مسألة أخرى، نعود إليها لاحقا.

القدس العربي

 

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى