إقتصادفي الواجهة

كيف يتحكم الشمال الأفريقي في مستقبل الدول الأوروبية؟

ظلَّ اهتمام الولايات المتحدة التي تُعَد الحليف الأكبر والأكثر أهمية للدول الأوروبية منصبا لفترة طويلة على منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها القضية الفلسطينية وحماية الأمن القومي الإسرائيلي وتأمين الممرات المائية الدولية التي تعبر من خلالها ناقلات نفط الخليج العربي إلى دول العالم، فضلا عن محاربة الإرهاب الذي وجد من الشرق الأوسط بيئة خصبة لنموه.

وهذا الانشغال الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط أفضى إلى إغفال إقليم شمال أفريقيا مقارنة ببقية دول المنطقة التي لطالما قبعت في بؤرة اهتمام السياسة الخارجية الأمريكية وتحرُّكاتها.

ومن هنا، يجادل الكاتب “ستيفين كوك”، في مقال له نُشِر على موقع مجلة فورين بوليسي الأمريكية تحت عنوان “مستقبل الدول الأوروبية بيد شمال أفريقيا”، هذه الفكرة؛ إذ يدعو إلى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية من جديد بإعطاء أولوية لدول الشمال الأفريقي والتوقف عن جعلها منطقة اهتمام “ثانوي” للولايات المتحدة أو بالأحرى تهميشها.

..التقارب الجغرافي والإرث الاستعماري

يُبْرز الكاتب التقارب الجغرافي بين دول الشمال الأفريقي والدول الأوروبية لا سيما الدول الأوروبية المشاطئة للبحر المتوسط “الدول الأورومتوسطية” بالإشارة إلى المسافات التي تفصل بين الجانبيْن.

فعلى سبيل المثال، لا يفصل بين الساحليْن التونسي والإيطالي إلا 146 ميلا فقط بينما تبلغ المسافة بين الشواطئ الجزائرية ونظيرتها الفرنسية قرابة 469 ميلا. ونحو 286 ميلا تفصل بين ليبيا واليونان و9 أميال فقط هي المسافة الفاصلة بين كل من المغرب وإسبانيا.

ولا تتقارب الدول الأوروبية ودول الشمال الأفريقي جغرافيا فحسب، فهناك تقارب ثقافي؛ إذ أفضى الإرث الاستعماري الأوروبي إلى وجود قواسم مشتركة في منظومة القيم الثقافية السائدة بين إقليم شمال أفريقيا والدول الأوروبية لا سيما القابعة جنوب القارة العجوز.

وقد أدَّى التقارب الجغرافي، في واحدة من أبرز تداعياته، إلى تدفُّق موجات الهجرة غير النظامية من الشمال الأفريقي كدول مصدِّرة للمهاجرين غير النظاميين من مواطنيها أو كدول ترانزيت “معبر” لمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى الدول الأوروبية كإيطاليا واليونان على وجه التحديد.

ويرى الكاتب أنَّ هذه الموجات من الهجرة غير النظامية التي تدفَّقت إلى الدول الأوروبية عبر الشمال الأفريقي تُنذر بضرب القيم الأوروبية الديمقراطية في مقتل؛ صحيح أنَّ المهاجرين إلى أوروبا لم يضطلعوا بدور مباشر في نشر الأيديولوجية اليمينية المتطرفة. بيْدَ أنَّهم أوجدوا قضايا استغلتها الأحزاب اليمينية المتطرفة وجعلتها أساسا لحملاتها الانتخابية، إذ هاجمت تلك الأحزاب، ولا تزال، المهاجرين والحدود المفتوحة open boarders على أساس ما تمثِّله من خطورة على الهوية الوطنية للدول ورفاهها؛ الأمر الذي لاقى صدى واسعا لدى كثير من المواطنين الأوروبيين، وبالفعل نجحت البروباجندا لهذه الأحزاب اليمينية الراديكالية في كثير من الدول الأوروبية كالنمسا وبولندا وإيطاليا واليونان.

ولذا أضحت الديمقراطية الأوروبية تواجه مأزقا حقيقيا آخذا في الاعتبار امتداد تلك الأحزاب إلى كل من بريطانيا، الحليف الحقيقي والأكثر أهمية للولايات المتحدة على المستوى الدولي بصفة عامة، وألمانيا. وكلتا الدولتيْن تشكلان حجر الزاوية في حماية الديمقراطية الأوروبية واستقرار القارة.

..أمن الطاقة الأوروبي

يضيف الكاتب في مقاله بُعدا آخر من أبعاد أهمية إيلاء الشمال الأفريقي قدرا كافيا من الاهتمام لدى صناع قرار السياسة الخارجية في كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية ألا وهو تأمين سيرورة إمدادات الغاز من دول الشمال الأفريقي. صحيح أنَّ الأغلبية العظمي من احتياجات أوروبا من الغاز تأتي من روسيا.

بيْدَ أن هناك دولا أوروبية لا تزال تعتمد على إمدادات الغاز المقبلة من الشمال الأفريقي. ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى أنه قرابة الـ52% من إمدادات الغاز لإسبانيا تأتي من الجزائر كما يُعد إقليم شمال أفريقيا ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي لإيطاليا.

وبالتالي، إذا انزلقت دولة بحجم الجزائر إلى العنف والفوضى فما الدولة التي ستكون مؤهَّلة لإمداد الدول الأوروبية باحتياجاتها من الغاز الطبيعي؟ آخذا في الاعتبار أن دولة مثل ليبيا التي تزخر بالغاز الطبيعي تشهد حربا أهلية ضروسا، ولدى الدولة المصرية كميات من الغاز خاصة عقب اكتشافات الغاز في البحر المتوسط لكنها غير مؤهَّلة حتى اللحظة الراهنة لإمداد أوروبا باحتياجاتها من الغاز.

أَضِف إلى ذلك، إسرائيل التي تبدي استعدادا لإمداد أوروبا بالغاز عن طريق خط أنابيب يصل بينها وبين أوروبا، ولكن حتى الآن لا يبدو أنَّ هذا الأمر يمكن تنفيذه الآن. وبالتالي فإنَّ ضمان تدفُّق إمدادات الغاز من دول شمال أفريقيا لا سيما الجزائر هو أمر كافٍ لجعل إقليم الشمال الأفريقي على رأس أجندة عمل السياسة الخارجية الأوروبية والأمريكية.

.. التنظيمات الإرهابية والذئاب المنفردة

ظلَّت واشنطن لعقود طويلة تحارب القاعدة وداعش وغيرهما من التنظيمات الإرهابية المنتشرة في اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان؛ لكن بذل الجهود لمحاربة التطرف العنيف في الشمال الأفريقي هو أمر لا غنى عنه إذا ما أُريد لجهود مكافحة الإرهاب الدولي أن تؤتي ثمارها.

ويشير الكاتب في هذا الصدد إلى أنَّ التحديات التي تواجهها دول المغرب العربي في مجال مكافحة الإرهاب المنتشر على أرضها تلقى بظلال خطيرة على أمن واستقرار القارة الأوروبية. فالإرهاب الذي عانت منه الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي كانت له تداعيات مباشرة على أمن فرنسا؛ فمن ارتكب تفجيرات مترو الأنفاق بباريس واختطف الطائرة الفرنسية في محاولة لإجبار طاقمها على تفجير برج إيفل كانوا متطرفين جزائريين.

هذا فضلا عن الهجمات الإرهابية التي شهدتها أوروبا مؤخرا التي ارتكبها مواطنون من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين من المغرب العربي إلى أوروبا وكذلك التهديدات التي يتعرَّض لها الأوروبيون حال إقامتهم في دول شمال أفريقيا. ففي عام 2015، قُتِل شرطي تونسي ونحو 59 سائحا أوروبيا في هجوميْن على متحف باردو وسط العاصمة وفندق في ولاية سوسة تبناهما تنظيم داعش.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ دولا كالجزائر وليبيا تتقارب جغرافيا وتتشارك حدودها مع دول كالنيجر وتشاد ومالي وهي دول تنتشر فيها التنظيمات الإرهابية المسلحة ما يزيد المشكلة تعقيدا إذا لم تحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام الأمريكي والأوروبي.

وختاما، يؤكِّد الكاتب أهمية القضايا المُشار إليها في ثنايا المقال كالهجرة وإمدادات الغاز فضلا عن الإرهاب ونشاط التنظيمات الراديكالية المسلحة في شمال أفريقيا وتداعياتها على الأمن الجماعي الأوروبي. وكل هذا يحفِّز وجهة نظر الكاتب ألا وهي الضرورة المُلِحَّة لوضع إقليم شمال أفريقيا في صدارة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية؛ ذلك لكون القضايا المتصلة بتلك المنطقة لا تقل أهمية عن ملفات أخرى لطالما حظيت بالقدر الأكبر من اهتمام صناع قرار السياسة الخارجية الأوروبية والأمريكية لعل في مقدمتها عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتعزيز القيم الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط خاصة في ظل الدور النشط والتحركات الدؤوبة للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وسعيه لمد النفوذ الروسي عبر البحر المتوسط من أنقرة شمالا حتى بنغازي غربا مرورا بالقاهرة ودمشق في محاولة منه لإعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي وتوطئة الدور الروسي على الساحة الدولية.

ولا يستهدف “بوتين” من ذلك كسب مزيد من الحلفاء الأمريكيين التقليديين إلى جانبه فحسب بل يبتغي أيضا تدشين قاعدة روسية بالشمال الأفريقي يمكن من خلالها الانطلاق لإثارة القلاقل وزعزعة أمن واستقرار الدول الأوروبية واستخدام المنطقة كورقة ضغط على أوروبا إذا لزم الأمر.

م.ج/وكالات

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى