
عزّز انتشار التصنيع تاريخياً تفاوت الدخل بين الدول. بيْد أن انتشار التصنيع الآن يعمل على ضغط التفاوت بين الدول.
يعالج كتاب “الجغرافية الجديدة لتفاوت الدخل العالمي” للباحث غلين فايرباو موضوع تفاوت الدخل العالمي، وهو التوزّع غير المنتظم للنشاطات الاقتصادية والرفاهيّة في العالم. والهدف الأساسي من الكتاب هو تقديم الحقائق المتعلقة بنزعات تفاوت الدخل العالمي، وهو موضوع يثير كثيراً من الجدل، ويعتريه كثير من سوء الفهم. فقد توصّل المؤلّف إلى نتيجة مفاجئة، وهي أن تفاوت الدخل العالمي آخذ في التناقص، خلافاً للاعتقاد السائد أن هذا التفاوت آخذ في التزايد.
ويبيّن غلين فايرباو، المتخصص بعلم السكان، أن تفاوت الدخل العالمي بلغ ذروته في أواخر القرن العشرين، وهو الآن يسير في طريق منحدر إلى أدنى، نتيجة انخفاض تفاوت الدخل بين الدول؛ بينما نجد تفاوت الدخل آخذ في الارتفاع ضمن الدول، ولو أن هذا الارتفاع لا يحدث بسرعة. ويذهب فايرباو إلى أن هذا التحوّل التاريخي يمثّل جغرافية جديدة لتفاوت الدخل العالمي في القرن الحادي والعشرين.
فقد ورد في تقرير التنمية في العالم، الذي نشره البنك الدولي 2000/ 2001، أن “تفاوت الدخل بين الدول ارتفع ارتفاعاً حاداً خلال السنوات الأربعين المنصرمة”. لكن مُنظّر العولمة روبرت ويد كتب في مجلة ذي إيكونومست، الصادرة في شهر أبريل سنة 2001، ما يلي: ثمّة دلائل جديدة توحي بأن تفاوت الدخل العالمي آخذٌ في الهبوط بسرعة”. ويعلّق المؤلّف بأن مثل هذه الادعاءات شيء مألوف تماماً؛ بيْد أن تفحّص البيانات يوحي بأن تفاوت الدخل بين الدول بلغ ذروته في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهو الآن آخذ في الهبوط. وفي الوقت نفسه، نرى أن تفاوت الدخل ضمن الدول – الذي كان آخذاً في الانحدار خلال النصف الأول من القرن العشرين – بدأ بالارتفاع.
..انخفاض تفاوت الدخل بين الدول
وبسبب انتشار التصنيع إلى دول فقيرة، والزيادة المتوقعة في عدد سكان الكثير منها، يتوقع المؤلّف استمرار نزعَتي التفاوت المذكورتين آنفاً بين الدول وضمنها. والنتيجة هي جغرافية جديدة لتفاوت الدخل العالمي، حيث ينخفض تفاوت الدخل بين الدول ويرتفع ضمنها، خلافاً لنزعتي التفاوت اللتين كانتا سائدتين في القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين.
ويتنبّأ المؤلّف بأن هذه الجغرافية الجديدة ستستمر في القرن الحادي والعشرين؛ وإذا ما “تحقّقت هذه النبوءة، فسنكون في وسط مرحلة لانتقال التفاوت، تضعف فيها ببطء الرابطة بين جنسيّة المرء ودخله؛ ومن ثمّ فقد يعتمد دخْلك في المستقبل على ما تعرفه أكثر من اعتماده على الموقع الذي تعيش فيه”.
في الجزء الأول (فرضية الجغرافية الجديدة)، يتحدث المؤلّف عن نشأة التفاوت الكبير في الدخل العالمي وأسباب أهميته، مشيراً إلى ظاهرتين مهمتين تتعلّقان باتجاهات الدخل العالمي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. الظاهرة الأولى هي النمو الكبير في معدّل الدخل العالمي. والظاهرة الثانية هي أن النمو أفاد مناطق مختلفة في العالم إفادة غير عادلة، إذ استفادت المناطق الغنيّة أكثر بكثير من المناطق الفقيرة. ونتيجة لذلك، أصبح التفاوت في الدخل العالمي أسوأ كثيراً منذ بداية القرن التاسع عشر.
ويردّ فايرباو على فكرة الكثير من كتّاب العولمة بأن التفاوت العالمي سيسوء بسبب “الانقسام الرقمي العالمي” الذي سيوسّع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، بأن الانزياح من اقتصاد عالمي مبني على التصنيع إلى آخر مبني على المعرفة سيُخفّض التفاوت بين الدول ولن يرفعه. فالمعرفة حركيّة، وبخاصة في ظل تكنولوجيا الاتصالات عن بُعد المنتشرة في هذه الأيام، والتي تسمح عملياً بتنظيم وتوزيع المعرفة في آنٍ واحد على جميع أرجاء المعمورة.
إن الانتقال الى اقتصاد عالمي مبني على المعرفة يعني أن تزايد دخل الفرد يتحدّد بكمية المعرفة التي يملكها ويستعملها، وليس بالمكان الذي يعيش فيه. والرابطة التي هي أكثر قوّة بين المعرفة والدخل تقتضي بدورها تفاوتاً متناقضاً للدخل بين الدول، وتفاوتاً متزايداً بين الدول، لأن التغيّر في قدرة الأفراد على الحصول على المعرفة والإفادة منها يكون أكبر ضمن الدول ممّا هو بينها.
..قياس التفاوت في الدخل
في الجزء الثاني (القياس)، يشرح المؤلّف، بعبارات غير تقنيّة، ما الذي يعنيه الدخل القومي، وكيف يُقاس هذا الدخل، وما يعنيه التفاوت في الدخل، وكيفية قياسه.
يؤكد الباحث على أن تفاوت الدخل بين الدول الآخذ في الانحدار مبنيٌ على بيانات وقياسات تقليدية، وأن جميع دراسات تفاوت الدخل بين الدول تعتمد على نفس مجموعات البيانات، وتستعمل نفس قياسات التفاوت.
حول تعريف التفاوت، يقول المؤلّف إنه يعني عدم المساواة. وتتحقق المساواة حين يكون x(الدخل، مثلاً) موزّعاً بالتساوي بين الوحدات، أي عندما تملك كل وحدة نفس القدر منx. قد تكون الوحدات أفراداً أو مجموعات من الأفراد، مثل العائلات أو المقاطعات أو الدول. وفي حالة المجموعات، تكون المساواة بينهما موجودة عندما تحصل كل مجموعة على المستوى المتوسط لx. كما يمكن أن يحدث تفاوت الدخل في مستويات مختلفة من التجمّعات، أي أن الدخل يمكن أن يتغير بين الأفراد (التفاوت في مستويات الأفراد)، وبين العائلات(التفاوت في مستويات العائلات)، وبين الدول(التفاوت بين الدول). وفي السياق، يوضح المؤلّف الفرق بين التفاوت inequlity والإجحاف inequity .
على سبيل المثال، فإن عناوين مقالات الصحف التي تُعلن عن اكتشافات جديدة تتعلق بـ”الإجحاف في الأجور”، غالباً ما يتبين أنها مقالات تتحدث عن الاختلافات أو التفاوت في الأجور، ولا تتعرض بالضرورة للإجحاف في الأجور.
إن التمييز بين التفاوت والإجحاف ليس من قبيل المجادلة في أمور لفظية؛ فمفهوم الإجحاف يستدعي التطرق إلى معايير لما يجب أن تكون عليه الأجور، في حين لا يتطلب التفاوت ذلك.
..ارتفاع تفاوت الدخل بين الدول
في الجزء الثالث (البيّنة والدليل)، يشير المؤلف إلى الإجماع في المراجع التجريبية على نقطتين رئيسيتين: أولاهما أن تفاوت الدخل بين الدول ارتفع كثيراً خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والثانية أن معظم التفاوت في الدخل الإجمالي العالمي موجود بين الدول، لا ضمنها. وبالطبع فالنقطتان مرتبطتان ببعضهما، لأن التفاوت بين الدول هو المركّبة الكبرى للتفاوت العالمي، بسبب الارتفاع الحاد في التفاوت بين الدول الذي جرى في سياق التصنيع الغربي. وعليه، فإن الارتفاع التاريخي في تفاوت الدخل بين الدول هو حقيقة مؤكّدة.
ويرى المؤلّف أن ثمّة قرارات أربعة مترابطة منطقياً في تحليل التفاوت في الدخل بين الدول، وهي: قرار تعديل، أم عدم تعديل، بيانات الدخل وفق القوّة الشرائية، وقرار استعمال معدّل دخل الفرد أم معدّل دخل العامل، وقرار تثقيل، أم عدم تثقيل، الدول بحجوم سكّانها، وقرار إدخال أم عدم إدخال الصين في هذا التحليل؛ مع تأكيده على أهمية تثقيل الدول بحجوم سكانها عند تقدير تفاوت الدخل العالمي. فلا يستطيع المرء استخلاص نتائج تتعلق بتفاوت الدخل العالمي من دراسات تفاوت الدخل بين الدول التي تُخفق في إجراء عملية التثقيل.
..النهضة في آسيا وتفاوت الدخل
حول التقسيمات القاريّة: آسيا، وإفريقيا، وعكس نزعة التفاوت، يلفت المؤلّف إلى أن الانبعاث الاقتصادي الحديث في آسيا هو الذي يكمن وراء الانعطاف في نزعة تفاوت الدخل بين الدول. ففي العقود الأخيرة، حدث في شرق آسيا، بوجه خاص، نمو اقتصادي قوي، في حين ضعف اقتصاد الصحراء الإفريقية. واختلاف النمو بين آسيا والصحراء الإفريقية هو السبب في اختلاف نزعتي التفاوت المثقل وغير المثقل بين الدول.
..التقسيم الطبقي العالمي
في الجزء الرابع (تفسيرات وتنبّؤات)، يعرض المؤلّف لأبرز الأفكار التي وردت ضمن نظريات في التقسيم الطبقي العالمي، كما يصفها علماء الاجتماع. ومن هذه النظريات: نظرية التبعية Dependency Theory ، التي تقدّم أحد التفسيرات الممكنة لازدهار بعض الدول أو المناطق اقتصادياً، وبقاء اقتصاد بعضها الآخر راكداً، بأن الازدهار والركود جزءان من عملية عامة تولّد رابحين وخاسرين. فيما ترى نظرية النمو النيوكلاسيكية (نظرية التقارب) أنه مع بدء الدول الصناعية الغنية بالتأثر بالعائدات المتناقصة، ستميل الدول الفقيرة (التي هي أبعد عن نقطة العائدات المتناقصة)، إلى النمو اقتصادياً. وبالتالي ستتقارب الدخول القومية وفق مبدأ تناقص عائدات رأس المال والعمل.
..تأثير النمو السكاني في التفاوت العالمي
عن تأثير النمو السكاني، يشير المؤلّف إلى ثلاث حقائق ديموغرافية أساسية تعود إلى أواخر القرن العشرين، وتتعلق بنزعة تفاوت الدخل العالمي. أولاً، نما عدد سكان العالم بسرعة، ومع ذلك واصل معدّل دخل الفرد ارتفاعه في العالم بمجمله. ثانياً، كانت الزيادة في سكان العالم غير متوازنة، إذ تزايد عدد السكان في الدول الفقيرة بسرعة أعلى بكثير من تزايدهم في الدول الغنية. وثالثاً، كان معدّل دخل الفرد يميل إلى التزايد ببطء شديد في الدول التي كان نموّها السكاني يتزايد بسرعة، وأدّى ذلك إلى تضخم الحصّة السكانية في الأعمار الصغيرة.
يترتب على الحقيقة الأولى أن النمو السكاني السريع لا يحول بالضرورة دون التنامي في معدّل دخل الفرد؛ ونستخلص من النتيجة الثالثة أن النمو السكاني السريع يمكنه، مع ذلك، إبطاء معدّل التنامي في معدّل دخل الفرد بواسطة أثره على بُنية أعمار السكان.
..تأثير التكنولوجيا في التفاوت العالمي
كذلك، تؤثّر التكنولوجيا في التفاوت العالمي. فأهم سبب لانتقال التفاوت هو انتشار التصنيع إلى الدول الفقيرة. ويتوقف انتشار التصنيع على المنطقة التي انتهجت التصنيع. ولمّا كانت جذور التصنيع ممتدة بداية في الدول الغنية، فقد عزّز انتشار التصنيع تاريخياً تفاوت الدخل بين الدول؛ بيْد أن انتشار التصنيع الآن يعمل على ضغط التفاوت بين الدول.
كما يتحدث المؤلّف عن دور للثقافة في التنمية الاقتصادية والتوزّع العالمي للدخل، حسب دراسات معتبرة. وأهم مرجع مشهور يتناول أثر الثقافة في الأداء الاقتصادي هو كتاب ماكس فيبر M. Weber (الأخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية)، والذي يحاجج فيه في أن البروتستانتية ساعدت على نشر الرأسمالية في الغرب. فعقيدة البروتستانتية التي تؤمن بضرورة العمل الجاد، والادّخار، وتجنّب الاستهلاك الزائد، تنسجم جيداً مع الحاجة إلى تكديس رأس المال اللازم للنظام الرأسمالي.
لكن الكاتب يلفت إلى أنه حتى لو كانت الاختلافات الثقافية مصدراً مهماً لتفاوت الدخل العالمي، فإن الثقافة الجماهيرية تتغير ببطء؛ ومن ثمّ فإن التغيّر الثقافي غير قادر على البحث عن تفسيرات للتغيّر في تفاوت الدخل الذي نشهده الآن خلال انتقال التفاوت. ومن ثمّ يعدّد الأسباب الرئيسية لانتقال التفاوت، وأوّلها: الانتشار المستمر للتصنيع إلى دول العالم الفقيرة، وازدهار قطاع الخدمات في الدول ذات الدخل العالي والدول ذات الدخل فوق المتوسط، وتقارب المؤسسات القومية، حيث تولّد الحدود بين الدول تفاوتاً أعلى مما تولّده الحدود بين المقاطعات أو الولايات أو المحافظات ضمن الدولة الواحدة(أميركا وأوروبا كمثال).
أما السبب الرابع لانتقال التفاوت، فهو التكنولوجيا التي تخفّض أثر عدم حركية القوى العاملة. فالتكنولوجيا المستقلة عن المكان يمكن أن تكون قوّة موازنة، على الأقل فيما يتعلق بالمركّبة الكبيرة لتفاوت الدخل بين الدول، ذلك أنها تعد بضغط تفاوت الدخل بين الدول عن طريق تلطيف أثر عدم حركية القوى العاملة عبر الحدود القومية.
أخيراً، وحول مستقبل تفاوت الدخل العالمي، ومع افتراض عدم حدوث انهيار اقتصادي عنيف أو نشوب حرب عالمية، يتوقع المؤلّف أن يشهد القرن الحادي والعشرون استمراراً للطور الثاني من انتقال التفاوت. سيستمر الانتقال من تفاوت للدخل بين الدول إلى تفاوته ضمن الدول، لأن أسباب هذا الانتقال باقية، وهي: انتشار التصنيع، ونمو قطاع الخدمات، وتقارب المؤسسات الاقتصادية القومية، والتغير التكنولوجي الذي يُضعف أثر عدم حركية العمالة عبر الحدود الدولية، والتزايد السكاني الكبير في كثير من الدول الفقيرة.
..هل يوفر الدخل المرتفع السعادة؟
وفي خاتمة كتابه، يجيب المؤلّف عن سؤال: هل يوفّر ارتفاع الدخل قدراً أكبر من السعادة؟ بالقول إن القفزة الهائلة في الدخول، التي حدثت على مدى القرنين المنصرمين، خفّضت تخفيضاً جوهرياً فاقة الناس؛ وتتّضح هذه الحقيقة من قياس النسبة المئوية للفقراء في العالم (بورگينيون وموريسون 1999). لكن بيانات عمليات المسح تشير إلى أن الارتفاع في الدخل القومي لا يُترجم إلى زيادة في سعادة المجتمعات. فمع ارتفاع الدخول، ترتفع توقعات المرء أيضاً؛ ويبدو أن السعادة تتحدّد بمقدار ما ينجزه المرء لتحقيق توقعاته. ولا يوجد سبب يجعلنا نصدّق أن هذا المبدأ سيكون أقل وضوحاً في المستقبل ممّا كان عليه في الماضي.