كتب

لماذا فشلت الليبرالية عالميا؟ قراءة هادئة للفهم

للمؤلف باتريك دينين وترجمة يعقوب عبد الرحمن

تتبع هذا الكتاب المراحل التاريخية لليبرالية، منذ اقتلاع الأرستقراطية القديمة، كما بيّن كيف أن النجاح الباهر لليبرالية أوصلها إلى تدهورها اللاحق.

معروف أن الترجمة الحرفية لـ “الليبرالية” هي”التحررية”، وهي تركِّز على الحرية الفردية، والعَلمانية، التي تعني إبعاد سلطة رجال الدين عن الدولة، ليس إلا. وذلك بعد أن وقفت الكنيسة طويلا في صف الإقطاع، تبيع “صكوك الغفران”، وتعاقب بـ “صكوك الحرمان”. بما أعاق تطور المجتمعات الغربية.

بسيطرة الليبرالية على شتى مفاتيح الدولة، فإنها هيمنت على مصائر الأفراد، جعل المؤلف يستنجد بفلاسفة السياسة “لإيجاد سبيل للخروج من المأزق” (ص  25).

لقد كانت الليبرالية، منذ نحو خمسة قرون، “رهاناً على أن المجتمع السياسي يمكن أن يرتكز على أسس مختلفة”. (ص27).

يعتقد “نحو 70 في المئة من الشعب الأمريكي أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ… وأن أطفالهم سيكونون أقل ازدهاراً”، ويرون أن النظام الليبرالي معطَّل سياسياً، “والنسيج الاجتماعي مهترئ، خصوصا مع تزايد الفجوة بين الأثرياء والمهمشين” (ص 28).

ورجح المؤلف أن “نشهد نهاية الجمهورية تتكشف أمام أعيننا… وظهور التجربة الدستورية الأمريكية ـ التي دامت ما يقرب من 250 عاماً ـ يقترب من نهايته”. (ص29 ـ 30).

أكد دينين بأن “الليبرالية أقل أيديولوجية، بنحو واضح، وتعيد تشكيل العالم على صورتها، بنحو مخفي… إنها أكثر مكراً، ودهاءً… وهي تتزلّف من خلال الدعوة إلى الحريات السهلة… لكن تشوُّهاتها أصبحت واضحة للعيان… حيث تزداد الفجوة بين ما تزعمه الأيديولوجيا وبين التجربة المعيشة للبشر في نطاقها… هكذا تجد الليبرالية نفسها بنحو واسع في فخ من صنع  يديها…: في السياسة، والحكومة، والاقتصاد، والتعليم، والعلوم والتكنولوجيا”. (ص 31 ـ 32).

عن الليبرالية غير المستدامة كان الفصل الأول، مبيِّنا كيف أن الليبرالية “جذبت، بنحو خاص، أولئك الخاضعين لنظم حكم تعسفية، وعدم مساواة ظالم وفقر متفش”. (ص 45).  لقد وُضعت أسس الليبرالية من قِبل سلسلة من المفكرين الذين كان هدفهم المركزي… تحقيق حرية الفرد في العقيدة والعمل”. (ص 48).

على أن الأهم، كون الليبرالية لجأت إلى ميراث، وموارد سبقتها إلى الوجود. تأتي الدولة فتحدُّ من الأفعال الخارجية للأفراد، والتقييد القانوني للأنشطة الهدامة.

لقد زعمت الليبرالية بأنها تصف عملية اتخاذ القرار السياسي، والجماعي، والخاص بحسب. بينما هي تؤثر في الطلاب، لتجعله طفولة بنحو أكثر أنانية. إنها تُعلِّم الناس كيفية تجنب الالتزامات وتبَني علاقات وروابط أكثر مرونة. ورأت أن على الإنسان توظيف العلوم الطبيعية، ونظام اقتصادي متحوِّل للسعي إلى الهيمنة على الطبيعة.

في القرن التاسع عشر، مع تطور الرأسمالية الغربية إلى الامبريالية، استبدلت بفكر الإيمان بالطبيعة البشرية الإيمان بـ “المرونة البشرية”.

يرى المؤلف بأن الليبرالية احتضنت وطوَّرت بالإضافة إلى ذلك نظاماً اقتصادياً. بينما الصحيح ـ برأيي ـ أن الرأسمالية ما شبَّت عن الطوق في الغرب حتى أشهرت شعارها التليد: “دعه يعمل دعه يمر”، فاجتاحت به كل الحواجز التي أقامها الإقطاعيون، مانعين بها الحركة، والسفر، والتنقل. ومثل ذاك الشعار الأساس الاقتصادي لليبرالية.

ويحلو للماركسيين أن يصفوها بـ “دكتاتورية الرأسمالية”، أغلب الظن في محاولة لتسويغ شعارهم هم: “ديكتاتورية البروليتاريا”، الذي لم يتخلوا عنه إلا بعد خراب مالطا.

في المجالين، المادي والاقتصادي، انكبت الليبرالية على استنزاف مستودعات الموارد، الموجودة منذ الأزل، في سعيها لإخضاع الطبيعة.

لقد زعمت الليبرالية بأنها تصف عملية اتخاذ القرار السياسي، والجماعي، والخاص بحسب. بينما هي تؤثر في الطلاب، لتجعله طفولة بنحو أكثر أنانية. إنها تُعلِّم الناس كيفية تجنب الالتزامات وتبَني علاقات وروابط أكثر مرونة. ورأت أن على الإنسان توظيف العلوم الطبيعية، ونظام اقتصادي متحوِّل للسعي إلى الهيمنة على الطبيعة.  رأى المؤلف أن المرحلة النهائية لليبرالية أعجز من أن تفرض النظام، بنحو دائم، على مجموعة من الأفراد المستقلين، المحرومين، بنحو متزايد، من الأعراف الاجتماعية التأسيسية، كما لا يمكنها أن توفر مادياً لا نهائياً، في عالم من الحدود. وأنهى المؤلف فصله داعياً إلى ضرورة معالجة الأعراض الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية العديدة لحرية الليبرالية. (ص 58 ـ 63).

حمل الفصل الثاني عنوان “توحيد النزعة الفردية والنزعة الدولتية”، فبعد التقسيم السياسي، منذ الثورة الفرنسية بين يمين ويسار، غدا الحزبان الأمريكيان الأكبر يمثلان هذه الثنائية، فالحزب الجمهوري يرى الفرد عنصرا أساسياً، في إخراج حكومة محدودة إلى حيز الوجود. بينما يرى الحزب الديمقراطي أن الفرد يمكنه أن يكون مكتفيا بذاته، على نحو كلي. وتتطور النزعتان تدعم إحداهما الأخرى.

ليست الدولة هي التي تساعد في تكوين الفرد بل الأفراد الأحرار، والمتساوون، هم الذين يجلبون دولة محدودة إلى حيِّز الوجود. وهكذا، يصبح أحد الأدوار الرئيسية للدولة الليبرالية هو التحرر النشط للأفراد من أي ظروف مقيِّدة. ويتمثل أحد الأهداف الرئيسة لتوسيع التجارة في تحرير الأفراد المدمجين من روابطهم وعلاقاتهم التقليدية.

كما أن التعامل مع الناس، كأفراد، يتطلب، عدا فصل الأسواق عن السياقات الاجتماعية، والدينية، بل أيضا قبول الناس أن عملهم، ونواتجه ليست أكثر من سلع، تخضع لآليات التسعير. وقد تكررت هذه العملية، مرات لا تُحصى، في تاريخ الاقتصاد السياسي الحديث.

لقد استخفت الليبرالية بالقدرة على التحولات البشرية. ونجحت ـ برأي جون ديوي ـ في “تسييل الممتلكات  الراكدة”. بينما يخوض طرفا المشروع الليبرالي الأمريكي منافسة مستمرة ومثيرة للاهتمام، على الوسائل، والسبيل المثالي لتحرير الفرد من علاقات تأسيسية، وتقاليد مفروضة، ومن أعراف مقيِّدة، ولكن من وراء الخطوط العريضة، سعى كلاهما بإصرار إلى توسيع مجال تحرر الفرد. ينتهي الفرد المنتزع، على نحو متزايد، بتعزيز سلطة الدولة، خالقة هذه الدائرة.

يرى روبرت نيسبيت بأن الانحلال الفاعل للمجتمعات والمؤسسات الإنسانية التقليدية، قد أدى إلى حالة لم تعد فيها حاجة إنسانية أساسية ملباة. تعامل الفصل الثالث مع “الليبرالية بوصفها مناهضة للثقافة”، مشيراً إلى أن التوسُّع المزدوج للدولة، والاستقلال الشخصي، يفقد ثقافات معينة، في نهاية المطاف وإحلال ثقافة ليبرالية، مناهضة للأولى.  وحسب ماريو فارغاس يوسا، فإن الثقافة اختفت وأصبحت شبحاً عصياً على الفهم.

هناك ثلاثة أعمدة لمناهضة الثقافة الليبرالية، أولها الغزو الشامل للطبيعة وثانيها تجربة جديدة للزمن باعتباره حاضراً، لا ماضي له، نظام يجعل المكان قابلاً للاستبدال. هنا، ثمة فسخ وإبعاد للطبيعة عن الثقافة، وأصبحت القواعد، والثقافات المحلية، بمثابة قيود قمعية على الفردية. الآن، تستبدل مجموعة كاملة من الثقافات الفعلية، بالاحتفال بـ “التعددية الثقافية”، أي اختزال التنوُّع الثقافي الفعلي، إلى التجانس الليبرالي الذي يرتدي ملابس محلية فضفاضة، يمكن التخلص منها بسهولة.

في الفصل الرابع “التكنولوجيا وفقدان الحرية” توقع المؤلف بأن الممارسات الثقافية المتبقية، التي نجت من عصر التكنوقراطية، تفسح المجال، في الوقت الحالي، لعالم متحوِّل، تكون فيه التكنولوجيا نفسها ثقافتنا، أو مناهِض الثقافة،

بيّن دينين في الفصل الخامس من كتابه: كيف أن “الليبرالية ضد العلوم الإنسانية”، حيث عارض المحافظون من أعضاء هيئة التدريس يسار الحرم الجامعي من خلال المطالبة بالإخلاص في دراسة أمهات الكتب. (صفحة 131 ـ 132). فتسارعت وتيرة زوال العلوم الإنسانية، في غياب تعبيرات مقنعة لسبب وجودها في أحرام الجامعات، في العصر الحالي. (صفحه 136).

خصص المؤلف الفصل السادس من كتابه لـ “الأروستقراطية الجديده”، مبينا أن ذروة الليبرالية، في نهاية المطاف هي مجتمع ذو طبقية عميقة، ومتفشية. واستنتج المؤلف بأن الليبرالية التقليدية هي جذور الأروستقراطية الجديدة، لينتهي بنا المطاف إلى “حكم الأقوياء”. “امتهان المواطنة”، كان عنوان الفصل السابع، حيث تركز الليبرالية على الأمور الخاصة على حساب الأمور العامة.

يتساءل دينين: وهل يمكن لليبرالية تصحيح ما خلقته بنفسها؟!

ينتقل المؤلف إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترفع من قيمة الحكم الديمقراطي، بينما تبتكر هياكل، تضطلع بعزل الحكومة عن النفوذ الشعبي. (ص178). في خاتمة كتابه، يرى دينين أن العلاج يكمن في الحرية. ومع ذلك فإنه سلَّم بأن الوجهة النهائية غير معروفة، ولا يمكن توقُّعها، وربما تتطلب الرحلة أجيالاً، لتكتمل.

بعد هذه القراءة لهذا الكتاب المفيد، والممتع، ذي المئتين وأربعين صفحة، من القطع المتوسط، تبقى التحية واجبة للمترجم، خاصة على المقدمة الشاملة التي بدأ بها الكتاب. على أن المؤلف لم يتطرق إلى الإمبريالية التي أسقطت قناع الليبرالية عن وجهها، عند احتلالها أقطارنا النامية، كما أن المؤلف اعتبر الفاشية نظاما آخر بينما هي وليدة الرأسمالية التي راعها اشتداد عود الطبقة العاملة، وخشيت على ضياع السلطة منها، فاستقوت بالفاشية وأساليبها القمعية الفظَّة.

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى