أمين بن مسعود
لم يجانب الكثير من مثقفي القارة الأفريقية المنطق عندما اعتبروا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “سفيرا سيئا” للفرنكفونية لغة وثقافة ومجالا جغرافيا للتأثير الفرنسي بشكله المباشر أو غير المباشر.
فالرئيس الذي عُلقت عليه آمال كبرى منذ ترشحه وانتخابه رئيسا على فرنسا، لا يزال متمسكا بالتقاليد الرتيبة والمسلكيات القديمة في إدارة البلاد وسياسة المجال الحيوي لفرنسا، ليكون بشكل من الأشكال سليل المحافظين وابنا شرعيا للدولة العميقة والبيروقراطية في باريس.
لن نتطرق إلى الملفات الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، التي تؤشر على أزمة هيكلية في البلاد، ولن نتطرق أيضا إلى المعضلة الحكومية مع إمكانية استقالة حكومة إدوار فيليب، بقدر ما سنهتم بمستوى التغييرات الرمزية العميقة التي كان من المفروض أن تنطلق منها باريس ويشرع فيها إيمانويل ماكرون، المتأثر بالفيلسوف الألماني يورغان هابرماس وبمقولة المجال العمومي الديمقراطي التعددي الحر، حتّى تضمن له قفزة إقليمية كبرى تحت عنوان عودة الروح إلى منظمة الفرنكفونية.
جزء من الريبة والتحفظ الذي تبديه الكثير من الشرائح في الفضاء الفرنكفوني حيال السياسات الفرنسية الثقافية أو اللغوية بشكل خاص، أنّ باريس تطالب الدول الأخرى بما لا تلتزم به هي ضمن سياساتها الداخلية.
فمن باب المفارقة أن تطالب فرنسا دول الفضاء الفرنكفوني بدعم اللغة الفرنسية وتطوير سبل تدريسها ومنظومات التواصل بها بالتوازي مع اللغة الأمّ، في حين أنّ الدولة الفرنسية يسارا ويمينا، محافظين وتحديثيين، حكومة ومعارضة ترفض بشكل مطلق أية تعددية لغوية وأي تنوع في التعبيرات اللسانية سواء تعلق الأمر بلغة الأقليات الأصيلة (الباسك، البروتون، الجرمانية، الكاتالانية) أو تطوير لغة الموطن لأبناء المهاجرين (العربية أو الإسبانية).
ولئن كانت باريس حريصة على تثمين اللغة الفرنسية كلغة ثانية أو لغة أجنبية متميزة ضمن مستعمراتها القديمة أو مجالها الحيوي الجديد، فهي مطالبة بأن تبرهن على أن دعمها للتعددية اللغوية هو استراتيجية ثقافية عميقة تبدأ من باريس وتشع على كافة الدول الأخرى، وقتها فقط يمكن لها أن تقدّم الفرنكفونية كمجال مثاقفة وتبادل، بعيدا عن مآرب تحويل العواصم والدول والقطاعات الثقافية إلى حدائق خلفية ناعمة تشرع تارة لسياساتها العسكرية في العمق الأفريقي، وتارة ثانية تسوّق لها كنموذج حضاري بديل.
كيف يمكن لأي متابع أن يفهم السياسات الثقافية الفرنسية أو أن ينزلها صلب مطلبية التعدد اللغوي، ولا تزال تعليقات ماكرون على استفتاء كاتالونيا بأنّ “فرنسا للفرنسيين، واللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد”، ترنّ في الآذان، أو رفض حكومات فرنسا المتتالية المصادقة على ميثاق أوروبا حول لغات الأقليات، شاهدة على التصوّر الفرنسي الثقافي واللغوي المتقوقع على ذاته.
كيف بالإمكان أن يقع الجمع بين التصنيفات الرديئة من كافة الهياكل الإقليمية والدولية لفرنسا فيما يخص سياسات التعددية الثقافية واللغوية حيث تقع باريس دائما في أسفل الترتيب في مؤشرات دمج المهاجرين، واحترام الحقوق الثقافية صلب المجال العموميّ، وتطوير المنظومة اللغوية للسكان الأصليين، وبين ترؤس فرنسا لمشروع حضاري رمزي يقوم على تمكين اللغة الفرنسية من فضاء تبادل ومجال سلطة ناعمة في عالم يريده ماكرون متنوعا.
لم تتنازل باريس عن نموذج الدولة المركزية فيما تريد قيادة مشروع حضاري يقوم على التشاركية، ولم تتخلص من النموذج الأحادي حيال اللغة داخليا فيما تشترط على نحو 40 دولة إرساء سياسات تنوع لغوي.
يقول ماكرون إن مستقبل الفرنكفونية في اللغة الفرنسية، والأصل أن مستقبل اللغة الفرنسية في تطوير الفرنكفونية عبر الكفّ عن سياسات تحويلها إلى حصان طروادة تبشر بالتنوع اللغوي وتنذر بالتدخل الناعم أو المباشر في سياسات الدول.
العرب اللندنية