كتب

“ما ندين به للمستقبل”: وصفة لمستقبل أفضل ولعيش أخلاقي في أوقات الخطر

كتاب للاسكتلندي ويليام مكاسكيل

يعتقد الفيلسوف وعالم الأخلاق من جامعة أكسفورد ويليام مكاسكيل أن الأخلاق تتطلب منّا الاهتمام بالمستقبل. وكتابه الجديد “ما ندين به للمستقبل” الصادر في ماي عام 2022 عن دار نشرBasic Books”” يحاول أن يشرح ما يقتضيه هذا الالتزام، ويطرح عدة نقاشات فلسفية حول الأخلاق والوضع الأخلاقي للبشر.

كُتِب هذا الكتاب بأسلوب بسيط، وهو مثال ساطع عن تقاليد الفلسفة التحليلية. كما أن آراء ويليام مكاسكيل فيه معبّرٌ عنها بوضوح شديد لدرجة أنها تبدو مثل شعارات، لكنها أيضاً مدَافَعٌ عنها بشراسة لكي تبدو عكس ذلك. “يمكنكم أن تشكّلوا مسار التاريخ”، يقول مكاسكيل، ويضيف: عليكم أن تفعلوا ذلك.

بدايةً، قد تتخيل أن بوسعك أن تعرف سلفاً ما سيأتي به كتابٌ يحمل عنوان “ما ندين به للمستقبل”: تذكير قيّم، إنما محبِط، بأن العالم يتجه نجو الجحيم، تذكيرٌ يعلمك بأن واجبك هو أن تحيا حياةً من إنكار الذات، محاولاً أن تتجاوز الشك بأن تضحياتك لن تشكّل أي فارق. لكن ذلك تخمينٌ خاطئ تماماً. فما يقدمه مكاسكيل عن “نظرية المدى الطويل” – فكرة أن التأثير بشكل إيجابي بالمستقبل بعيدِ المدى هو أولوية أخلاقية أساسية في عصرنا – مقنعٌ جداً. كما أنه يقدمه بشكلٍ متفائلٍ وواقعيةٍ محفّزة: إن هذا الكتاب هو الكتاب الأكثر إلهاماً فيما يخص “العيش الأخلاقي”.

“رغم أن ذلك قد يبدو غريباً، نحن هم القدماء”، يكتب مكاسكيل. “نحن نعيش في بداية التاريخ، في الماضي الأكثر بعداً”. وعندما نتأمل مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الأجيال المستقبلية، إذا ما فعلنا هذا قط، سنرى أنها بشكل أساسي تتمثل في ترك الكوكب مكاناً صالحاً للعيش.

على وجه الخصوص، علينا أن نفعل ما بوسعنا لنضمن وجود الكثير من البشر السعداء المرفّهين في المستقبل. علينا أن نركّز على الخيارات ذات التأثيرات الأكثر أهمية واستمرارية، والتي لن تحدث إذا لم نتصرف. يمكننا، وفقاً لقول مكاسكيل، أن نفعل نوعين من الأشياء المهمة لأجل البشرية: أن نساعد في ضمان بقائها وأن نغيّر مسارها. كذلك، وبالإضافة إلى المحتوى الفلسفي، كمية المسائل التجريبية التي يتناولها مكاسكيل مثيرة للإعجاب. ما الذي جعل البشر عموماً يصلون إلى رؤية العبودية كشرّ؟ هل ستصبح الحضارة راكدة؟ هل سيكون للذكاء الصناعي نفس قيمنا؟

بعد تحديد نقاط الانطلاق هذه، تناقش بقية الكتاب طرقَ تنفيذ هذه المهام – تغيير العادات السيئة إلى عادات جيدة؛ تجنّب الانقراض، الانهيار، الركود – وترد على بعض النقاشات الفلسفية حول مفهوم الصواب والخير في سياق حضارات كاملة، أو ما يدعى أحياناً “أخلاقيات السكان”. يعتقد مكاسكيل أنه ما إن ندرك أن المستقبل مهم، سيكون علينا أن ندرك أيضاً أنه شديد الأهمية، وأحد أسباب ذلك هي أن أعداد السكان قد تتزايد بشكل كبير. وحتى إذا بقيت مستقرة، فإن امتداد الوقت الكبير الذي قد تستمر فيه الحضارة يعني أنه سيكون هنالك بشر أكثر بكثير في المستقبل مما يوجد في الحاضر ومما وجد في الماضي. بالتالي، و بالنظر إلى ما تظهره الأرقام وحدها، المستقبل هو أكثر ما يهم.

ماذا علينا إذاً أن نفعل لأجل المستقبل؟ كيف بوسعنا أن نهتم به؟ الطريقة الأكثر وضوحاً بالطبع هي تجنّب الانقراض والانهيار، وحماية المستقبل من وقوع الأوبئة، اصطدام كويكبات بالكرة الأرضية، الحروب النووية، التغييرات المناخية، ونفاد الوقود.

كذلك، أحد طرق جعل الأمور أفضل في المستقبل هي، كما يعتقد مكاسكيل، أن نطوّر قيمنا الأخلاقية اليوم أو أن نبدأ بتوجيه قيمنا نحو التطور في المستقبل بحيث يُعامَل البشر على نحو أفضل في المستقبل من قبل معاصريهم. يحرص مكاسكيل، وهو محق في هذا، على الإشارة إلى أنه لدينا أسباب وجيهة لأن نعتقد أننا، تماماً كما أساءت الأجيال السابقة فهم أشياء كثيرة بشأن الأخلاق، قد نسيء اليوم أيضاً فهمَ أشياء كثيرة.

المفاجأة الأولى في هذا الكتاب هي أنه ليس عن المناخ وحسب كما قد نتوقع، وليس حتى عنه بشكل رئيسي. ويعود هذا في جزءٍ منه إلى حقيقة أن مكاسكيل متفائل في هذا الخصوص، ويشير إلى وعود مناخية طموحة، وفي جزء آخر إلى وجود تهديدات أخرى ملحّة. أحد هذه التهديدات هو أننا نفقد السيطرة على مجال الذكاء الصناعي، وثانيها هو الأسلحة البيولوجية التي تقتل المليارات. يكتب مكاسكيل: “يقدّر خبراءَ أعرفهم احتمالَ وقوع وباء مختَلق على مستوى انقراض في هذا القرن بنسبة 1%”. ويناقش مكاسكيل أيضاً حقيقة أن المستقبل قد لا يكون بشرياً: أنه في حالة انقراض البشر، قد تتطور كائنات عاقلة أخرى مكاننا، أو أن الذكاء الصناعي الذي نبتكره قد يحلّ محلنا.

المكون المفاجِئ الآخر في آراء مكاسكيل هو أن المسألة ليست مسألة الاستفادة بقدر ما يمكن من شيء سيئ فحسب؛ أي القيام بما نستطيع لنضمن أن حياة من سيأتون بعدنا لا تكون سيئة بالكامل. بل أن لدينا أيضاً الفرصة لتحقيق مقادير لا توصف من السعادة المستقبلية، وتلك في الواقع مسؤوليتنا. وهذه هي القوة الأخلاقية لنظرية المدى البعيد: علينا أن ننقذ المناخ، نتحكّم بالذكاء الصناعي ونوقف الأوبئة، ليس لنمنع معاناة الأجيال الحالية أو الوشيكة وحسب، بل كذلك لأن نهاية البشرية سوف تعني  أن تريليونات من الحيوات السعيدة المحتملة لن توجد قط.

بالنتيجة، علينا أيضاً أن نرغب بأن يزداد عدد سكان العالم في المستقبل، وعلينا أن نعتبر إنجاب الأطفال طريقةً في صنع مساهمة إيجابية في ذلك المستقبل.  فالنقاشات ضد الإنجاب لا تأخذ بعين الاعتبار السعادةَ البشرية المحتملة التي تزيل تلك النقاشات إمكانيتها من المستقبل؛ سعادة أطفالك، وأطفالِ أطفالك، وأطفالِ أطفالهم، حسب مكاسكيل.

السؤال بالطبع هو فيما إذا كنا قادرين على فعل كل ما يقترحه مكاسكيل لمساعدة بلايين المستقبل؟ وفقاً لمكاسكيل، نحن في موضع يحتّم علينا فعل ذلك، لأننا نعيش في عصر تغيير سريع لا يمكن أن يدوم أكثر من ذلك. بالتالي، نحن نملك قوة مدوخةً للتأثير في المستقبل أكثر مما قد يملك مَن سيأتون بعدنا. ثمة الكثير من الأشياء المحددة والقابلة للإنجاز التي على الحكومات والشركات أن تقوم بها في مجال الذكاء الصناعي، وخطر الأوبئة، وإزالة غاز ثنائي أكسيد الكربون، والتي يجب أن نضغط عليهم ليقوموا بها. علينا أيضاً أن نركّز على النواحي الأخلاقية، لأن الأعراف التي نؤسسها اليوم يرجّح أن تدوم لآلاف السنين.

مع هذا كلّه، تلقّى كتاب “ما ندين به للمستقبل” عدة انتقادات. هل كتب مكاسكيل – الذي دُعي “نبياً كارهاً” في مجلة ذا نيويوركر الأميركية – منظوراً محرضاً للبشرية؟ أو أن منظوره مفصَّل حسب الطلب ليتيح لنخب الفلسفة والمال والتكنولوجيا أن يطلقوا العنان لميولهم المعادية للإنسانية؟

كذلك، اعتبر بعض الفلاسفة أن نظرية المدى الطويل سهلة أكثر مما يجب، لأن التركيز على المستقبل يعني أن من يطبقونها لن يضطروا للتعامل مع بشر أحياء فعليين. في المقابل، رأى محلّلون آخرون أننا لا يجب أن نهتم بالمستقبل على الإطلاق، وأن ما يهم هو الآن وهنا والبشر الأحياء اليوم فحسب.

علاوة على ذلك، تذكر بعض المراجعات احتمالَ أننا لا نستطيع التنبؤ بأي شيء حول المستقبل؛ أنه من التغطرس الاعتقاد بأننا نعرف الكثير حول ما سيحدث، وما سيكون عليه البشر، بعد أكثر من بضع سنوات. لكن مكاسكيل يناقش هذه الصعوبة ويقترح ثلاث قواعد أساسية: اتخذْ إجراءات تلائم مجموعة من المستقبَلات الممكنة؛ ارفعْ عدد الخيارات المستقبلية؛ وتعلّمْ أكثر. فحتى إن لم نكن نعرف أيهما أكثر احتمالاً بالحدوث: الأوبئة المستقبلية أو الاصطدامات الكويكبيّة المدمِّرة، بوسعنا أن نعزّز تعليماً علمياً عاماً يساعدنا في الاستعداد لكلا الحالتين.

بالنتيجة، الوعد العام الذي يقدّمه هذا الكتاب هو الوعد بحياة تتخفّف من عبء الشعور بالذنب الأخلاقي وجلْد الذات، وتكون في الوقت ذاته حياةً أكثر فاعلية وتأثيراً في مساعدة البشرية. يعدُ كتاب “ما ندين به للمستقبل” بحياة نتمتع فيها بحق، ونأخذ تلك المتعة على محمل الجد بما يكفي لأن نريد حياةً مثلها، أو أفضل منها، لبلايين البشر الذين سيأتون من بعدنا؛ لأطفالِ أطفالِ أطفالنا.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى