مقالات

مساحة التفكير المفقودة في معالجة أزمة اللاجئين

علي الصراف

تستطيع بريطانيا أن تستقبل مليوني لاجئ وليس من المنطقي أن تضيق ذرعا بعشر معشارهم.

بريطانيا لا تعاني من تراجع أعداد السكان، كما هو الحال في ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى. ولكن ذلك ليس قيدا حقيقيا، إذا ما اتسع الأفق، واتسعت الحاجة. وعلى رغم الاعتقاد بأن مساحة بريطانيا “محدودة”، قياسا بفرنسا وألمانيا، إلا أن المساحة المفقودة في التفكير أكبر بكثير من المساحة “الضيقة” المزعومة على الأرض. بريطانيا محاطة، على الأقل، بجزر كبيرة نسبيا ومحدودة السكان.

المشكلة تكمن حصرا في طبيعة النظرة إلى “الفائض” غير المرغوب به من السكان الجدد. فضلا عن كل ما يليها من مخاوف ثقافية واجتماعية، لكي لا نقول عنصرية أيضا.

يستطيع المرء أن يلاحظ أن النمط الاقتصادي البريطاني مختلف عن نظيره الألماني. الأول، خدماتي بالدرجة الأساس. فيما الثاني صناعي. الأول يستقطب المهارات العالية، فيما الثاني يستقطب كل الشرائح. هذا الاختلاف هو ما يصنع الاختلاف بين النمطين في القدرة على “الاستيعاب”.

من هذا الاختلاف نجحت ألمانيا في استيعاب نحو مليوني لاجئ تقاطروا إليها بين عامي 2014 و2017، حتى أصيبت بـ”التخمة”. ولكنها حتى من بعد هذه “التخمة” ظلت تستقبل آخرين. وعندما اندلعت الأزمة في أوكرانيا، فإنها سرعان ما فتحت الأبواب لعشرات، بل وربما مئات الآلاف ممن فُتحت لهم القلوب قبل الأبواب. وهي مشاعر مفهومة، ولا يفترض أن تُرفض على نحو مسبق. ولكن مما لم تتمكن منه بريطانيا، حتى حيال اللاجئين من أوكرانيا، القلوب كما الأبواب ظلت مغلقة. السبب يتعلق، بالدرجة الأهم، بطبيعة النظرة إلى اللاجئين، وبما إذا كانوا “فائضا” فعلا.

ألمانيا ليست أقل “غرورا” بثقافتها ولا بعرقها، من بريطانيا. وكان يمكن للأمر أن يشكل دافعا أكبر للانغلاق والنظرة المحافظة. إلا أنها لم تفعل. من ناحية، لأن ذلك “الغرور” تشذب وتهذب كثيرا جدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر الذي وفر للألمان القدرة على تبني نظرة “أوسع” للآخر على الأقل، من حيث تلتزم الغالبية العظمى بالمعايير القانونية لتلك النظرة. ومن ناحية أخرى، لأن النمو الاقتصادي مشروط بالحاجة إلى أعداد أكبر فأكبر من الأيدي العاملة. وهذا ما يملي على “الاستيعاب” أن يتبنى توظيفا عمليا لـ”الفائض”. ذلك جزء من طبيعة الاقتصاد الصناعي الذي يميل إلى الإنتاج أكثر من ميله إلى الاستهلاك.

بحسب مثال غايته التبسيط المجرد: بريطانيا تكسب المال من صفقات البنوك، وأعمال الشركات العابرة للحدود، بينما تكسب ألمانيا المال من مبيعات مرسيدس وبي.أم.دبليو. الأولى، في جانب منها، تتعلق بمهارات استثمار ومضاربة. فيما الثانية تتعلق بمهارات تقنية. الأولى، تغرق بالمكاتب وربطات العنق. أما الثانية، فتغرق بالمكائن وزيوتها.

ليس من مهمة هذه السطور أن تقول أيهما أفضل. فكلاهما مفيد وناجح. ولكن اختلاف النظرة إلى “الفائض” البشري ربما أصبح واضحا الآن. ليس مطلوبا من بريطانيا، بما أنها بلد صناعي كبير أيضا، وبما أن العالم يواجه تقلبات اقتصادية ومناخية ضخمة، وخطيرة، سوى أن تعيد النظر بتصورها لطبيعة هذا “الفائض” وما إذا كان يمكن توظيفه على نحو يجعله مصدرا إضافيا من مصادر النمو.

المساحة المفقودة في التفكير إذا عثرت على نفسها، فإنها لن تعدم العثور على المساحة اللازمة من الأرض، وهي شاسعة ومتنوعة ولا يفترض أن تبقى ضحية للإهمال أو “الاستغناء” الاقتصادي، الذي يغذي “الاستغناء” الثقافي عن الحاجة إلى الآخر أو حتى مجرد القبول به.

اللاجئون ليسوا مجموعات من البشر تبحث عن تلقي المعونات المجانية. هذه فكرة غير صحيحة. وهم ليسوا كسالى يرغبون بالتنعم بالبطالة. طبيعة الحياة نفسها في المجتمعات الغربية تجعل البطالة كابوسا مرعبا.

ومع كل الاحترام لميول النزعة المحافظة والانعزالية، وأسبابها “الثقافية” فإن اللاجئين ليس مطلوبا منهم “الاندماج” أصلا. ليس جيلهم الأول على الأقل. “الاندماج” غير ضروري إلى تلك الدرجة التي تصطنع العوائق وتحول دون “استيعاب” اللاجئين في دورة من دورات الإنتاج والعمل الصناعي أو الزراعي.

إنهم “عمالة” رخيصة ومرنة، وقابلة لإعادة التأهيل. وبسبب من دوافعهم إلى الهرب من أوطانهم الأصلية، فإنهم مؤهلون نفسيا على الأقل، لأداء شتى أنماط العمل. بعضهم، على أي حال، يمتلك مهارات عالية أيضا. ولن تتفاجأ، إذا رأيت أطباء ومهندسين وتقنيين وذوي حرف مهرة بين أولئك اللاجئين الذين يتم التعامل معهم استنادا إلى ما تمليه “النظرة الأولى” والفكرة المسبقة.

الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين تبحث عن الأمان والاستقرار والانخراط في بيئة تتيح فرصا للازدهار. وهذه ليست مطالب معقدة.  ما تفعله حكومة بوريس جونسون، هي أنها تريد إثارة الرعب في نفوس الراغبين بالهجرة أو اللجوء إلى بريطانيا، بتهديدهم بالترحيل إلى رواندا.  فيلم الرعب هذا، لم يمنع من وصول المزيد من لاجئي القوارب. ولكنه لا يقدم الجواب الصحيح للأزمة.

الآلية الجارية في بريطانيا لاستقبال اللاجئين تمضي على النحو التالي: مراكز احتجاز. ثم توزيع اللاجئين على بلديات لاستيعابهم، بإسكانهم وتقديم المعونات الأسبوعية، وتركهم إلى القدر، هم ومهاراتهم أو دوافعهم الشخصية.

وعندما يتم التعامل معهم كفائض، فمن الطبيعي أن يتحولوا إلى “فائض” فعلا. فإذا ما شكلوا، بسبب حاجتهم إلى العمل، عامل ضغط على الوظائف المتدنية المحلية، فسرعان ما سوف يُصبحون عدوا بالنسبة إلى ذوي “الياقات الزرق” أو أدنى.

الجواب الصحيح، هو إقامة “مجتمعات عمل”. لا يهم كم أنها نائية أو معزولة، ولكنها يمكن أن تُبنى على أساس توظيف المهارات المتدنية، من أعمال البناء، إلى الزراعة وغيرها. “تجمعات إنتاجية” ترعاها شركات، بدعم أو من دون دعم حكومي، هي جواب أفضل من فيلم رعب يدل على إفلاس المخيلة.

الأموال التي تريد حكومة جونسون تقديمها إلى رواندا، من أجل إخراج وإنتاج فيلم الرعب، يمكن توظيفها من أجل إخراج وإنتاج تجربة إنسانية واقتصادية معقولة.

هذه المقاربة، لا تخص بريطانيا وحدها، ولكنها تشمل كل دول العالم التي “تعاني” من “مشكلة اللاجئين”. إنها المقاربة الوحيدة، على أي حال، التي يمكنها استيعاب “موجات الهجرة” المدفوعة بأزمات مختلفة.

إذا كان التغير المناخي يهدد مدنا ودولا بالغرق، أو مجتمعات مستقرة بالجفاف والتصحر، فمما لا مفر منه أن تجد أزمات اللجوء مقاربات مختلفة عما دأبنا على فعله حتى الآن. المسألة لم تعد مسألة “لجوء سياسي”، أو “لجوء اقتصادي”. إنها مسألة إعادة تكيّف إنساني يتطلب بناء تصورات أشمل لعمليات الضم والاستيعاب.

آخر ما تحتاجه البشرية في معالجة هذه الأزمة، هو أفلام رعب تجلب مشاعر العار على المجتمع الذي يتبنى إنتاجها وإخراجها.

مساحة التفكير المفقودة هي ما يجب أن تستعاد أولا. سوف تتوفر حينئذ مساحة أوسع لزراعة القمح، وتربية المواشي، وتصدير اللحوم، وبناء المساكن، وشق الطرقات، وتحسين البنى التحتية، بتكاليف زهيدة، لا يطلب أصحابها أكثر من الأمان والاستقرار والعيش في بيئة صالحة.

العرب اللندنية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى