الأخيرة

معارك الإضراب عن الطعام يسطِّرها الأسرى الفلسطينيون بأمعائهم الخاوية

د. خالد أبو قوطة** أستاذ ورئيس قسم الإعلام بكلية فلسطين التقنية

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال لا يملكون أي سلاح لكنهم يملكون إرادة وتصميماً وإيماناً بعدالة قضيتهم، فخاضوا معاركهم مع السجان بأمعائهم الخاوية واستطاعوا بفضل صبرهم على الجوع أن يجعلوا السجان يرضخ وينصاع لمطالبهم ويلبي احتياجاتهم التي كفلتها كافة الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية حيث تنكّر لها المحتل، فهو يمارس بحقهم كافة أساليب التعذيب لإلحاق الضرر بهم جسدياً ونفسياً، فقد نُكل بهم وانتهكت حقوقهم خلال استجوابهم ومكوثهم داخل السجون والمعتقلات، للنيل منهم وتحطيم روحهم المعنوية، فطالت الهجمة الشرسة والمنظمة والمدروسة من إدارة السجون الإسرائيلية كافة مناحي حياة الأسرى، في محاولة لتبديد إنجازاتهم التي حققوها بالشهداء والدماء وآلاف الأطنان من اللحم البشري الذي فقدوه أثناء إضرابهم عن الطعام، بتشريع من المحاكم الإسرائيلية، لفرض مزيد من العقوبات في محاولة لمضاعفة معاناتهم، مما يعبر عن استهتار الحكومة الإسرائيلية بجميع الأعراف والقوانين الدولية التي نصت على حماية الأسرى ومعاملتهم إنسانياً.

فناضل الأسرى الفلسطينيون بالإضرابات عن الطعام ما يعرف بـ “معركة الأمعاء الخاوية” ، للاحتجاج على ظروفهم القاسية، بالامتناع عن تناول كافة أصناف وأشكال المواد الغذائية الموجودة في متناول الأسرى باستثناء الماء وقليل من الملح حفاظاً على أمعائهم الخاوية من التعفن، وتعتبر هذه الخطوة الأخطر والأقسى التي يلجأ إليها الأسرى لما يترتب عليها من مخاطر جسيمة – جسدية ونفسية- وصلت في بعض الأحيان إلى استشهاد عدد منهم، ويلجأ الأسرى إلى مثل هذه الخطوة بعد نفاذ كافة الخطوات النضالية التكتيكية الأخرى، وعدم الاستجابة لمطالبهم عبر الحوار المفتوح بين إدارة السجون الإسرائيلية واللجنة النضالية التي تمثل الأسرى، حيث أن الأسرى يعتبرون الإضراب المفتوح عن الطعام، وسيلة لتحقيق هدف وليس غاية بحد ذاتها، كما تعتبر أكثر الأساليب النضالية السلمية وأهمها، من حيث الفعالية والتأثير على إدارة المعتقلات والسلطات والرأي العام لتحقيق مطالبهم، كما أنها تبقى أولاً وأخيراً معركة إرادة وعزيمة وتصميم، وهنالك أنواع من الإضرابات وفق الأهداف، كالإضرابات الاحتجاجية، والتضامنية، والمطلبية، والسياسية.

فخاض الأسرى الفلسطينيون العديد من الإضرابات الفردية والجماعية منذ العام 1969م بشكل سنوي، وسعت مصلحة السجون بوسائل عديدة من أجل إفشال هذه الإضرابات، فكانت تقوم بعزل قادة الحركة الأسيرة وتوزعهم على السجون المتفرقة، ومصادرة الملح والماء وبث الإشاعات بأن إسرائيل لا يمكنها الرضوخ لمطالبهم، لكن الأسرى الفلسطينيين كانوا متمسكون بها ومصرون على خوض معركتهم لتنصاع مصلحة السجون لمطالبهم وتنفذها.

وبدأ الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال مطلع العام 2011م بخوض إضرابات فردية وجماعية رفضاً لسياسة العزل الانفرادي مطالبين بمعاملتهم وفق اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة، فبادر المعتقل “خضر عدنان” بإضرابه المفتوح عن الطعام بتاريخ 17/1/2011م واستمر لمدة 67 يوماً رفضاً لسياسة الاعتقال الإداري وسياسة الإذلال والامتهان من كرامة الأسرى، وشكل نجاحه بداية لما يشبه انتفاضة في السجون الإسرائيلية، بعد مرافقتها لتصاعد التظاهرات في مختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحملات التضامن العربية والدولية مع الأسرى في سجون الاحتلال، وبعد الاهتمام الإعلامي والجماهيري خلال مدة إضرابه مما شجع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال على الإضراب والدفاع عن حقوقهم، ومن أبرز الإضرابات عن الطعام كان الإضراب الجماعي لقرابة 300 أسير في الفترة بين 27/9/2011م إلى 18/10/2011م واستمر لمدة 22 يوماً، وتوقف مع نجاح صفقة شاليط التي تم من خلالها إطلاق سراح 1027 أسيراً وأسيرة مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط المحتجز لدى فصائل المقاومة الفلسطينية.

أما بتاريخ 17/4/2012م (ذكرى يوم الأسير الفلسطيني)، فقد أعلنت الحركة الأسيرة عن إضرابها الجماعي المفتوح عن الطعام في معركة سمتها “معركة النصر أو الموت”، مطالبة بإنهاء سياسة العزل الانفرادي، والسماح للأسرى بالزيارات العائلية، وإكمال تعليمهم الثانوي والجامعي، وإعادة أوضاع السجون إلى ما كانت عليه قبل العام 2000م، وشارك في هذا الإضراب أكثر من 2000 أسير بما فيهم الأطفال والنساء، وعم الإضراب العديد من السجون المركزية مثل نفحة، وريمون، والنقب، وجلبوع، وعسقلان.

وقررت لجنة الأسرى التعهد والالتزام بالاتفاق المصري–الإسرائيلي الذي أُنجز يوم 14 مايو 2012م، بعد عقد عدة لقاءات بين المخابرات المصرية والإسرائيلية جرت في القاهرة لإنهاء الإضراب مقابل تعهد إسرائيل بالاستجابة لمطالب الأسرى، مع تحديد موعد زمني لفحص طلبات الأسرى، واعتبر الاتفاق إنجاز كبير للحركة الأسيرة بل كان أعلى بكثير من السقف الذي وضعوه قبل البدء بالإضراب، وخاصةً أنهم استطاعوا إخراج جميع المعزولين من العذل الانفرادي، وتثبيت زيارات الأهل لأسرى قطاع غزة، فهذا الإنجاز الذي تحقق له نتائج إيجابية على الحركة الأسيرة، كونه أخرجها من دائرة الضعف التي استمرت لأكثر من ثماني سنوات منذ إضراب عام 2004م الذي تم إفشاله من إدارة السجون، وأعاد لها الثقة بإمكانياتها وقدراتها لتحقيق الإنجازات، وما لبثت أن نكثت الحكومة الإسرائيلية جميع الاتفاقيات المبرمة، وعادت الإضرابات الفردية للأسرى مرة أخرى فمنذ 15 سبتمبر 2012م حتى نهاية عام 2013م لم يمر يوم واحد بدون إضرابات فردية أو جماعية عن الطعام.

فعاد الأسرى المعتقلون إدارياً للإضراب الجماعي بتاريخ 23/4/2014م رفضاً للاعتقال الإداري والبالغ عددهم 88 أسيرا،ً وتضامن معهم المئات من الأسرى المحكومين في مختلف السجون والمعتقلات الإسرائيلية، فنقل أكثر من ثمانين أسيراً إلى المستشفيات الإسرائيلية لسوء حالتهم الصحية وتناولهم للماء والملح فقط، وتم تعليق هذا الإضراب بتاريخ 25/6/2014م أي بعد ثلاثة وستين يوماً في إطار اتفاق بين ممثلين عن الأسرى المضربين ومصلحة السجون الإسرائيلية بعد تحقيق بعض مطالبهم منها تحديد فترة الاعتقال الإداري بعام، وعدم استخدامه كعقاب روتيني، وعودة الزيارات العائلية لبعض الأسرى.

فلا تعترف مصلحة السجون بحق الأسرى في خوض الإضرابات الفردية أو الجماعية عن الطعام، بل تعتبره فعلاً مخلاً بالنظام ومخالفةً تستحق العقاب بصرف النظر عن أسبابه ومطالبه، على هذا الأساس تتعامل مع إضراب الأسرى وفق لوائحها رقم (00/6/04) بفرض العقوبات تتمثل، بفرض غرامات تراوحت قيمتها ما بين (70-135$)، إغلاق الأقسام وعزلها طوال فترة الإضراب، الحرمان من الزيارات لمدة شهرين، وتشمل مقابلة المحامين، الحرمان من الكنتينة وهي عبارة عن المخصصات النقدية للأسير تصله من ذويه أو وزارة شؤون الأسرى والمحررين أو الفصائل السياسية الفلسطينية، للإنفاق على إقامته داخل السجن، من شراء طعام وشراب ومستلزمات معيشية.

وبتاريخ 17/4/2017م أضرب الأسرى الفلسطينيون بقيادة القائد مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والنائب في المجلس التشريعي وبمشاركة ما يقارب من 1800 أسير، مطالبين بتحسين شروط حياة الأسرى الفلسطينيين من حيث منع الزيارات، وسياسة العزل الانفرادي، وتصاعد الاعتقالات الإدارية، وتواصل التفتيش والقمع، ومنع التعليم الجامعي والثانوية العامة، ومنع إدخال الكتب، وسوء الطعام كما ونوعا، والنقل المفاجئ الفردي والجماعي وأماكن الاعتقال التي تفتقر للحد الأدنى من شروط الحياة الآدمية، وسياسة الاستهتار الطبي وخاصة لذوى الأمراض المزمنة ولمن يحتاجون لعمليات عاجلة، واقتحامات الفرق الخاصة للغرف والأقسام، وتحسين ظروف الزيارات وتركيب هاتف عمومي للأسرى الفلسطينيين في جميع السجون والأقسام بهدف التواصل إنسانيًا مع ذويهم في ظل المنع وعدم منح التصاريح، وهذا حق في ظل السياسات القهرية التي استخدمتها سلطات مصلحة السجون الإسرائيلية بحقهم وعائلاتهم، وتحويل الزيارات كأداة عقابية وتضييقية تعود بالأثر السلبي على الأسير نفسه وعلى أهله الذين يحرمون من حقهم في لقاء أبنائهم في السجون.

واليوم يواصل الأسير ماهر الأخرس إضرابه الفردي المفتوح عن الطعام منذ 69 يوماً، رفضاً لاعتقاله الإداري، في ظل ظروف صحية صعبة تزداد خطورتها مع مرور الوقت بسجن مستشفى كابلان الإسرائيلي بعد أن نقل إليه نهاية الأسبوع المنصرم من زنازين سجن “عوفر”، علماً أنه مستمر في رفضه لأخذ المدعمات الغذائية، وقد تعرض للاعتقال عدة مرات كانت أول مرة عام 1989م، واعتقل للمرة الثانية عام 2004م، ثم أُعيد اعتقاله عام 2009م، وفي عام 2018م، وأخيراً أعاد الاحتلال اعتقاله في تاريخ 27 يوليو 2020م، وجرى تحويله إلى الاعتقال الإداري لمدة أربعة شهور، جرى تثبيتها لاحقاً، وهو أب لستة أبناء أصغرهم طفلته تُقى وتبلغ من العمر ستة أعوام، وكان يعمل قبل اعتقاله في الزراعة.

وخلال أيام تلوح بالأفق معركة جماعية جديدة للإضراب عن الطعام في حال وصلت المفاوضات المستمرة مع سلطة السجون إلى طريق مسدود ستكون ساحتها بسجن عوفر يسطرها أكثر من 300 أسير فلسطيني بأمعائهم الخاوية لانتزاع حقوقهم من السجان الإسرائيلي المتمثلة بتحسين ظروف الاعتقال والطعام الصالح  وزيارة الأهل والحماية من الكورونا.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى