مقالات

هذه الحرب ربما تتَّجه نحو وقف إطلاق النار

سيرغي رادشينكو
بعد عام من القتال الوحشي، فُقدت خلاله آلاف الأرواح، وتدمرت البنية التحتية المدنية ووقعت أضرار هائلة، وصلت الحرب نقطة جمود، وذلك مع رفض الجانبين لتسوية عبر التفاوض. وداخل ميدان القتال، تتنافس الجيوش التي تعرضت للدمار على مساحات صغيرة من الأراضي، بتكلفة مروعة. وفي خضم كل ذلك، يبقى خطر التصعيد النووي يحوم فوق رؤوس الجميع.
هذه ليست أوكرانيا اليوم، وإنما شبه الجزيرة الكورية عام 1951. بطبيعة الحال، ما من حربين تتطابقان تمام الانطباق، لكن على امتداد تاريخ الحروب الطويل، ثمة حرب معينة تبرز لتشابهها الكبير مع حمام الدماء الذي تشهده أوكرانيا اليوم، حيث خاض أبناء كوريا الجنوبية وحلفاؤهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، حرباً ضد قوات كوريا الشمالية والصين 1950 – 1953، اللتين كان يدعمهما الاتحاد السوفياتي. هناك دروس مستفادة يمكن استخلاصها منه، لكن أهمها على الإطلاق ربما يكون كيف انتهت هذه الحرب.
في أوكرانيا، تبدو الطريق لنهاية الحرب طويلة. فيما يخص روسيا، الاحتمال الأكبر أن النصر يعني تأمين الأراضي الأوكرانية التي تدعي أحقيتها بالسيطرة عليها. أما أوكرانيا، فإن النصر لن يكون سوى طرد جميع القوات الروسية إلى خارج البلاد، بما في ذلك القرم. ولا يبدو أي من الجانبين مهتماً بخوض مفاوضات، لذا من الصعب تخيل كيف يمكن الخروج من هذا الموقف بتسوية سلمية.
في كوريا، كان الموقف مشابهاً، فلم يكن أي من أبناء كوريا الشمالية أو الجنوبية أو من يرعونهم، متحمساً لوضع نهاية للحرب، إلا أن الصراع الذي سقط ضحيته ما يصل إلى 3 ملايين شخص وتسبب في دمار مدن بأكملها انحسر تدريجياً، ما أفسح الطريق أمام وقف إطلاق النار، وتقسيم مؤقت لشبه الجزيرة الكورية، اتضح أنه أطول أمداً عما تصوره أي شخص آنذاك.
في النهاية، بدت الحرب المتأزمة أو المتجمدة أفضل من الخيارات الأخرى.
جاء قرار بدء الحرب في كوريا من جانب رجل واحد؛ جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفياتي. وبعد أن رفض بادئ الأمر مناشدات كيم إل سونغ، كي يسمح الاتحاد السوفياتي له بغزو الجنوب، بدّل ستالين رأيه في يناير (كانون الثاني) 1950. ووقف خلف هذا التحول سببان؛ الأول أنه مع اقتراب إبرام معاهدة الصداقة والتحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي، التي وقّعت في 14 فبراير (شباط) 1950 أدرك ستالين أن بمقدوره الاعتماد على مشاركة الصين في الحرب، إذا لزم الأمر.
الثاني، وربما الأهم، صدور إشارات مضللة من جانب الأمم المتحدة. على رأسها إعلان وزير الخارجية دين آتشيسون الشهير في 12 فبراير 1950، الذي استثنى كوريا من «النطاق الدفاعي». وبجانب معلومات استخباراتية جرى اعتراضها، بدا ذلك كافياً لطمأنة ستالين – بالخطأ، كما اتضح لاحقاً – أن الولايات المتحدة لن تتدخل في كوريا.
بالنظر إلى الضوء الأخضر بالمضي في الغزو، عبرت قوات كورية شمالية خط 38 في 25 يونيو (حزيران) 1950، وسرعان ما استولت على سيول، ومضت قدماً في حملة اكتساح كبرى كان يمكن أن تنتهي بالسيطرة على جميع أرجاء كوريا، إلا أن التدخل الأميركي الحاسم، تحت راية الأمم المتحدة، تسبب في حالة من الارتباك في صفوف قوات كوريا الشمالية، وتحول مسار الحرب.
أواخر سبتمبر (أيلول) 1950، اتخذ الجنرال دوغلاس ماكارثر، الذي كان مسؤولاً عن جهود الحرب الغربية، قراراً مصيرياً بالدخول إلى كوريا الشمالية، بهدف تحرير النصف الشمالي من البلاد.
ومع مراقبته هذه التطورات من بعيد، حثّ ستالين الصينيين على الانضمام للقتال. وبعد بعض التردد بادئ الأمر، وافق ماو تسي دونغ، الذي كان نصره الشيوعي داخل الصين قد تحقق منذ عام واحد فقط.
وبالفعل، بدأ الصينيون في العبور سراً إلى داخل كوريا الشمالية أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 1950، لتدخل الحرب مرحلة دموية جديدة.
في البداية، أحرز «متطوعو الشعب» الصينيون (حسبما جرت تسمية القوات الصينية بالخطأ عمداً) انتصارات مبهرة، ما دفع قوات الأمم المتحدة نحو جنوب الخط 38، وأعادوا الاستيلاء على سيول، إلا أن هذا الزخم لم يستمر. جراء صعوبات لوجيستية والقصف الأميركي، انحسر الهجوم بحلول مايو (أيار) 1950. ومع ذلك، لم يتمكن الأميركيون من تحقيق إنجاز كبير خلال الشهور التالية. ورغم خوض الجانبين كثيراً من المعارك بين عامي 1951 و1953، أصيبت الحرب بالجمود بصورة أساسية.
وبدا واضحاً بحلول صيف 1951، أن الحرب لن تحقق أي شيء، إلا أن الأمر تطلب عامين آخرين، تخللهما قصف مدفعي فتاك عبر خط السيطرة، وأعمال قتال متقطعة، قبل أن يجري وضع نهاية للقتال. وخلال هذه الفترة المؤقتة، سقط عشرات الآلاف قتلى، وجرت أعمال قصف أميركية واسعة لسدود كهرومائية في كوريا الشمالية، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء بالكامل في الشمال.
كان السبب الظاهري وراء هذا التأخير أن كثيراً من الأسرى الصينيين والكوريين الشماليين لم يبدوا اهتماماً بأن يجري تبادلهم، مفضلين البقاء مع آسريهم. إلا أن المشكلة الحقيقية كانت تردد ستالين إزاء الموافقة على وقف إطلاق نار. وفي يونيو 1951، كتب إلى ماو: «لا أعتقد أنك بحاجة إلى التعجيل بنهاية الحرب في كوريا، فقبل أي شيء، من شأن الحرب الطويلة السماح للقوات الصينية بإتقان مهارات القتال الحديث داخل ميدان قتال، وثانياً فإنها ستهز أركان نظام ترومان في أميركا، وستقوض مكانة القوات الأنغلو – أميركية».
وبالفعل، كان الديكتاتور سعيداً تماماً بترك الحرب تستمر، خاصة أن معظم القتلى كانوا في صفوف الصينيين والكوريين والأميركيين. فقط عندما مات ستالين في مارس (آذار) 1953، أعاد القادة السوفيات النظر في المغامرة غير المحسوبة برمتها، وشجعوا حلفاءهم على المضي نحو إبرام اتفاق. وبالفعل، جرى توقيع اتفاق الهدنة في قرية بانمنجوم الصغيرة في يوليو (تموز) 1953، وكان في جوهره اتفاق وقف إطلاق نار. ولم يجرِ إبرام اتفاقية سلام أو تسوية عبر التفاوض. من الناحية الفنية، كانت الحرب ما تزال مجمدة، لكنها لم تنتهِ.
ومع ذلك، أعقبت ذلك حالة من السلام غير المؤكد، والعجيب أنها استمرت. وثمة مؤشرات على أن كيم إل سونغ فكّر في غزو آخر لكوريا الجنوبية أواخر الستينات، عندما بدت الولايات المتحدة أقل استعداداً للتدخل حال اشتعال الوضع من جديد في كوريا، على خلفية هزيمتها في فيتنام.
إلا أن الصينيين والسوفيات لم يكونوا متحمسين لهذا الأمر، خاصة أن التحالف الصيني – السوفياتي كان قد انهار منذ فترة طويلة، والتقى الحليفان السابقان وجهاً لوجه في حرب قصيرة على الحدود المتنازع عليها بينهما عام 1969.
وفي السبعينات، بدأت كوريا الشمالية تتراجع في خضم منافستها الاقتصادية مع الجنوب. وأصبح من الواضح أن توحد الشطرين الكوريين، لو حدث، فإنه سيأتي تبعاً لشروط سيول فقط.
وبعد 70 عاماً من الهدنة الكورية، ما زال آل كيم يحكمون الشمال، ويملكون اليوم أسلحة نووية، وما زالوا يحظون بدعم الصين وروسيا. وفي المقابل، تشير تقارير إلى أن كوريا الشمالية ساعدت روسيا على شن الحرب في أوكرانيا من خلال إمدادها بالذخيرة.
ونظرت الصين هي الأخرى على نحو إيجابي إلى مغامرة فلاديمير بوتين غير المحسوبة، رغم أنه على خلاف الحال مع ستالين عام 1951، ربما لا يرغب شي جينبينغ في رؤية هذه الحرب مستمرة إلى الأبد. وربما سيسعد للغاية بإبرام وقف إطلاق النار.
في الواقع، ربما يكون هذا الحل المفضل لدى دوائر أخرى. منها بالتأكيد جنوب الكرة الأرضية، الذي لا يرى فائدة تذكر من وراء الحرب في أوكرانيا، وكذلك كثير من الدوائر الانتخابية في الغرب.
أما الأطراف الأكثر وضوحاً في معارضتهم لوقف إطلاق النار، فهي الأطراف التي تخوض القتال على الأرض؛ الروس والأوكرانيون. فيما يخص أوكرانيا، فإن الحرص على التصدي لقوة غازية تدعي أحقيتها في السيطرة على ربع أراضي البلاد تقريباً، أمر يمكن تفهمه.
ومع ذلك، إذا لم يحقق أي من الجانبين مكاسب كبيرة خلال الشهرين المقبلين، ربما يكون الصراع في طريقه نحو وقف إطلاق النار. ومع أن الأوكرانيين ربما لن يكونوا حينها قد استعادوا كامل أراضيهم، فإنهم سيكونون قد نجحوا في صد الروس. وفيما يخص الروس، فإنه سيكون باستطاعتهم تصوير هزيمتهم الاستراتيجية باعتبارها انتصاراً تكتيكياً. وبذلك سيتجمد الصراع، وهي نتيجة أبعد ما تكون عن المثالية. ومع هذا، فإنه من بين الدروس التي تحملها لنا الحرب الكورية أن الصراع المتجمد أفضل من الهزيمة الصريحة أو اشتعال حرب استنزاف تستنزف الطاقة.
 خدمة «نيويورك تايمز»

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى