كتب

هكذا يشرح الغنوشي رأيه في العلاقة بين الدين والسياسة (الجزء الثاني)

مواصلة لعرض مفاهيم “الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام” نجعل مدار هذه الحلقة على مفهومي الحرية وحقوق الإنسان في الإسلام ضمن تصور راشد الغنوشي وما يكمن وراءهما من الخلفيات الفكرية والفلسفية. ثم نجعل المفاهيم الواردة في الأثر ومدى انسجامها ضمن رؤية متكاملة موضوعا للتأمل ولإبداء الرأي الشخصي.
1 ـ الحريات وحقوق الإنسان في الإسلام
أ ـ مفهوم الحرية:
ينطلق الأثر من نقد المقاربة الغربية لهذا المفهوم رافضا كل منطلق فلسفي. فقد كشفت الفلسفة ـ في تقدير الغنوشي ـ عن إفلاسها عند تناولها لهذا المبحث. فـ”كانت الروح العدمية هي المسيطرة على تلك الفلسفات، حيث صورت الإنسان الحر كائنا معزولا قلقا محطما لا يرى سبيلا لحريته غير تحطيم كل الروابط والقيم التي تشده إلى غيره، مما لم يبق معه معنى لوجوده غير الانتحار والعبث”. ويعلن اختياره مقاربته من زاوية منهجية مختلفة. فبدل الطرح الفلسفي المتعالي يبحث عن دلالة المفهوم في المجال الأخلاقي والقانوني والسياسي وفي وعلاقة الإنسان بالمؤسسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة أنّ الحرية غدت “هدفا للمضطهدين والضمائر الطيبة”.
ضمن هذا الأفق يناقش راشد الغنوشي مفهوم الحرية في الإسلام. فيقدّر أنّها شرط للتدين. فالفعل الاستخلافي المعهود للإنسان لا يكون تعبديا إلا بقدر ما يكون مريدا وواعيا ومسؤولا. والصلاة أو الصوم على سبيل المثال، لا يرتقيان إلى مصاف العبادة ما لم يأتيهما العابد بحرية. ولهذا الدور المركزي لها أضافها محمد الطاهر بن عاشور مع العدل إلى مقاصد الشريعة الخمسة المتفق عليها بين الفقهاء وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ العرض وحفظ المال. ويجعل من أوكد مهام السلطة، بصفتها خادمة للإنسان، ضمان حريته. ويجد في هذا التصور اختلافا عن التصور الليبرالي المنادي بإنسان لا سلطان عليه من قبل ملك أو دين أو إله.
وضمن هذا المبحث يتطرق إلى المناويل الاقتصادية. فينظر إلى الحرية الاقتصادية من منظور خاص منتزع من فريضة الزكاة ومختلف عن المعهود في الفكر الغربي، منشإ هذا المفهوم. فالزكاة ليست عملا عباديا فحسب. إنها نشاط اجتماعي واقتصادي وعنصر مؤثر في التداول على الثروة لتقليص الفوارق الاجتماعية خاصة. وليس العنصر العبادي فيها غير محفز وطاقة حاثة على أدائها. وهكذا تضحي “عملا إراديا وبالتالي حرا مريدا يتفوق على شهوة التملك فيهذبها” ذلك ” أن الملكية في الإسلام هي لله وما الإنسان إلا مستخلف فيه.. [و]اعتبار الملكية لله يحرر الإنسان من أن يصبح عبدا للدينار ويعلي من رقابته الذاتية على دوافعه”.
وانطلاقا من هذا المنظور يعمل على بلورة تصور إسلامي للحرية الاقتصادية يجمع بين حرية المبادرة وحرية التملك ويمنع حصر الثروة في يد القلة طبقة كانت أو أفرادا أو دولة، في تقديره. ويجد هذا المنوال متباينا مع الرأسمالية التي تسمح بتجميع الثروة لدى قلة من الأفراد والشيوعية التي تقصرها على ملكية الدولة، مشيدا بنظام الأوقاف باعتباره تجسيدا عمليا للملكية العامة للثروة من قبل المجتمع وخارج نطاق الدولة والأفراد والطبقات.
تنشأ إذن، انطلاقا من التفاعل بين الأمانة والمسؤولية، حرية الإنسان. وهذا ما يمثل، في تقديره، منظورا إسلاميا لمفهومها: أن نمارس مسؤوليتنا ممارسة إيجابية وأن نفعل الواجب طوعا بإتيان الأمر واجتناب النهي فنستحق درجة الخلفاء. ولا يخفى على دارس الفلسفة ما في هذا التصور من اتكاء على مفهوم الحرية في المذهب الوجودي الملحد رغم إعلان الرجل أنه لا يريد أن يجعل من الحرية موضوعا للتأمل الفلسفي كما أسلفنا الذكر. فمعلوم أن سارتر لا يعتبر الإنسان حرّا حينما يحصل على كل ما يريد، وإنما حينما يمتلك القدرة على اختيار ذاته. فيرفض الفهم الذي يمنحها دلالة التحرر من كلّ القيود. فالإنسان، لا يحقق حريته إلا من خلال مقاومته لموقف خارجي. ووجود هذه المقاومة شرط أساسي لانبثاق الحرية والوعي والمسؤولية. وبيّن أن تصور الغنوشي يحافظ على المقولات الوجودية نفسها ولكنه يصوغها من منطلق مركزية الله في الكون لا الإنسان الفرد.
ب ـ مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام:
ينطلق في مقاربته لهذا المفهوم من إدانة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فقد غدا عنده، إنجيلا للحريات العامة، أي مقدسا مسيحيا غربيا يُفرض على بقية الأديان وعلى الدول قاطبة، فيما نفهم من اعتماده لعبارة “إنجيل”. ويأخذ عليه جملة من الاحترازات. فغالبا ما تكون هذه الحقوق شكلية وسلبية. فتعطي للفرد إمكانات نظرية ولا تمنحه بالمقابل الوسائل الضرورية لتحقيقها ولا تحميه من القهر طالما أن السلطة والثقافة تحتكرهما فئات معينة لا تساويه ـ عمليا على الأقل ـ في الحقوق. ويتبنى النقد الماركسي الرافض للمنحى الفردي لهذه الحقوق والحريات. فهي برجوازية ضبطت في سياق حضاري قوامه الصراع بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج وملوك الإقطاع والكنيسة.

ومن ثمة كانت هذه الحقوق والحريات تعمل على ضمان ديمومة الثروة في أيدي البرجوازيين وعلى توظيف الدولة لخدمتهم. “والنتيجة أن المحدد الأساسي بل الوحيد للحريات والحقوق لا الله ولا الطبيعة الإنسانية ولا الحق الأزلي، كما ذكره إنجلز، وإنه هو إله آخر يسمى موازين القوى، القوة والسيطرة والصراع.. ذلك معبود الغرب ومصدر قيمه، وعبثا يحاول المستضعفون والمعذبون في الأرض أن يقنعوا جلاديهم الغربيين بمختلف أسمائهم وأسماء عملائهم أن يجودوا عليهم باسم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ومختلف المواثيق الدولية وبيانات الأمميات ببعض حق أو يعينوهم على ظالم أو حتى أن يكفوا أيديهم عنهم، فكل ذلك محض احتناك الشيطان وخداع النفس، السبيل الوحيد واللعبة الوحيدة التي يفقهونها: موازين القوى.. وهي اليوم لصالحهم”.
وبديهي أنه لم يهاجم “منظومة الحقوق الغربية الزائفة” إلا ليقترح العقيدة أساس لحقوق الإنسان وفق المنظور الإسلامي. ففي تقديره لا بد من استناد هذه الحقوق إلى خالق الإنسان حتى تكتسب قدسية تخرج بها عن سيطرة أطراف ذات مصلحة آنية لتتلاعب بها كما نشاء فترتقي إلى مصاف الواجب الديني الذي يجعلها أمانة في عنق كل مؤمن وتكتسب بعدا كونيا يتجاوز الفوارق الجنسية أو الإقليمية وشمولا يخلصها من البعد الشكلي الصرف الذي أوقعها فيه التصور البورجوازي الانتهازي.
2 ـ الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، وبعد:
كنا قد أشرنا في الحلقة الأولى إلى أنّ فكر الغنوشي يأخذ من التراث الفقهي وإلى أنه كثيرا ما ينفتح على النظريات الحديثة الوافدة من الغرب أساسا بغاية تعميق التصور الإسلامي لمبادئ الحكم الحديث القائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو إلى أي مدى تكامل القديم والحديث في ذهن الرجل وإلى أي مدة انسجما في تصوراته.
أ ـ العقل التراثي الفقهي:
يستدعي الغنوشي مفاهيم حديثة بالنسبة إلى العقل العربي المسلم شأن الديمقراطية والحرية الاقتصادية وحقوق الإنسان. فيفرغها من دلالتها الأصلية ويمنحها مفهوما غريبا عنها، مستمدا من أصول الفقه امتثالا لـ”نصوص الشرع الآمرة جزما برد جميع الأمور إلى الشرع والاحتكام إليه متواترة وقاطعة، وهو ما يجعل مخالفة تلك الأصول خروجا عن الملة وتفويتا في الشرعية وتشريعا للتمرد على سلطان الدولة”.
كتاب “الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام” شهادة جديدة على أنّ العقل العربي يعيش الغربة الفكرية والحضارية ويفشل في المواءمة بين النسق الفكري المحافظ المستمد من الماضي والذي يؤمن بمركزية السماء ويجد الأرض ملحقا من ملاحقها ولا يحدد فيها الإنسان إلا بصفته عنصرا من الجماعة، والآخر المعاصر الذي يؤمن بمركزية الأرض ومركزية الإنسان فيها وبأن السماء تابع من توابعها وأنّ الصلة بها شأن خاص بهذا الإنسان الفرد.
على هذا الأساس تضحي الديمقراطية شورى والحاكم الذي يدبر الشأن العام “نائبا عن الأمة في إقامة الشريعة” يشترط فيه “ألا يخرج في كل تصرفاته عن الشريعة” فكل انفصال بين الشأن الدنيوي السياسي والدين “محض خيال خادع وانحراف شنيع وسقوط في الإثم والضلال وهو من جهة أخرى استسلام لأعداء الإسلام وتوكيلهم لمصيره”.
على هذا النحو تصبح الديمقراطية ابتكارا إسلاميا أصيلا فـ”الإسلام هو الذي أسس للديمقراطية والغرب هو الذي أخذها من الإسلام، حيث مثّل نموذج الخلافة الراشدة مثالا للحكم الذي يستمد شرعيته من تفويض العامة، ونلمس ذلك في خطبة أبي بكر رضي الله عنـه “قد وليت عليكم ولست بأفضلكم” ولم يقل توليت بل وليت عن طريق الاختيار”. وهذا ما يغرس ضمن تصوّره صدى عميقا لمفهوم الحاكمية التي مدارها على أنّ “أصل الألوهية وجوهرها هو السّلطة”، وعلى المماثلة بين “إقامة دين الله”، و”إقامة الحكومة الإسلامية”. وهذا أيضا ما يجعله يرى في كل مخالف له في الرأي متآمرا على الدين بقصد ونية وإضمار.
كذا كان موقفه من العلمانيين جميعا. فهم “معطلة نفاة.. عملوا على تهميش الإسلام والإجهاز عليه بإفراغه من محتواه الاجتماعي السياسي ونقله من العام إلى الخاص وإهدار مبدئه الأعظم وخصيصته الأبين في التوحيد بين المادي والروحي وبين السياسة والأخلاق وبين الدنيا والدين”.
ب ـ الفكر الحداثي

لتعمق أفكاره كثيرا ما كان يفيد من منجز الفكر الغربي الحديث خاصة في فهمه للحرية والديمقراطية والمواطنة. فـ”الدولة وجدت أصلا للمحافظة على حقوق [الإنسان] وجعله حراً” فتدار من منطلق حاجياته. والحرية هي المبدأ في تنظيم كل مظاهر الحياة والاحتكام إلى رأي الأغلبية هو الأساس في تنظيم الحياة السياسية رفضا للقهر والإرغام. والقضاء لا يكون عادلا إلا إذا ما كان مستقلا. والمعضلة هنا أنّ المكونين، السلفي الذي مداره على حكم إسلامي في إطار الشريعة والحداثي الذي يقوم على مبدإ التداول على السلطة يتم على أساس الانتخاب الحر النزيه بين كل أطياف المجتمع بصرف النظر عن الدين، غالبا ما يتساكنان ولا يتفاعلان ويتجاوران ولا يتكاملان أو يتحاوران لتوليد نسق جديد منسجم داخليا موفق بين الأصالة والحداثة، وأنّ الهوة بين حاكمية الله وسلطة الشعب تظل عميقة في فكره.

ففرضية ذهاب رأي الأغلبية إلى ما يتعارض مع النص التشريعي والأحكام الباتة التي فيها نص ممكنة في الذهن مفقودة في الكتاب. وقد فرضها الأمر الواقع بالفعل بعد الثورة. ونتيجة لهذه الهوة ارتبك الإسلام السياسي في تونس إرباكا شديدا واضطر بعد صدامات كثيرة مع الطيف العلماني إلى أن يتخلى عن هذا المكون السلفي. فقد أعلن الغنوشي سنة 2015 على رؤوس الملإ تبنيه لمنجزات الفكر الغربي الحديث وتصوراته لحقوق الإنسان التي يعلن الكتاب زيفها، بما في ذلك رفض تجريم المثلية الجنسية والقبول بالإجهاض اللذين يرفضهما طيف واسع من الفكر الغربي نفسه.
ولا نعتقد أن هذا الارتباك يعود إلى نفاق رجل السياسة وعدم ثباته على عهد ولا نفسره من زاوية أخلاقية بقدر ما نفهمه من زاوية نفسية ـ ذهنية. فالأفكار تتلاطم في ذهن المفكر لافتقارها للخيط الناظم الموحّد. وكتاب “الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام” شهادة جديدة على أنّ العقل العربي يعيش الغربة الفكرية والحضارية ويفشل في المواءمة بين النسق الفكري المحافظ المستمد من الماضي والذي يؤمن بمركزية السماء ويجد الأرض ملحقا من ملاحقها ولا يحدد فيها الإنسان إلا بصفته عنصرا من الجماعة، والآخر المعاصر الذي يؤمن بمركزية الأرض ومركزية الإنسان فيها وبأن السماء تابع من توابعها وأنّ الصلة بها شأن خاص بهذا الإنسان الفرد.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى