مقالات

هل تعيد ليز تراس بناء الجسور مع أوروبا؟

ماري ديجيفسكي

لم يكن من الصعب ملاحظة شيء من الدهشة بين السياسيين والمراقبين على حد سواء عندما تم الإعلان عن أن رئيسة الوزراء ليز تراس ستحضر الاجتماع التأسيسي للمجموعة السياسية الأوروبية European Political Community، وذلك قبل ستة أيام من موعد انعقاده فقط. أسباب عديدة جعلت من قرار انضمامها هذا إلى باقي زعماء 43 دولة أوروبية في قلعة براغ [التاريخية] مفاجئاً تماماً.

حتى في الفترة التي تلت فوزها في المنافسة على رئاسة حزب المحافظين، استمرت ليز تراس بالترويج بحماسة كبيرة لموقفها الداعم لـ”بريكست” في محاولة منها لإقناع الناس بأنها فعلاً قد غيرت مسارها وانضمت إلى مؤيدي عملية الخروج من أوروبا [كانت ليز تراس في السابق من مؤيدي بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي]، كما أنها لم تبد اهتماماً أبداً بأولئك المؤيدين لأوروبا داخل حزبها والذين كانوا يحثونها على القيام بجهود واغتنام الفرصة لإصلاح ما انكسر من علاقات خلال اجتماعات براغ. ومسألة كون مشروع المجموعة السياسية الأوروبية، كان وليد أفكار اقترحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يكن عاملاً مساعداً أيضاً، بخاصة أن العلاقات بين تراس وماكرون لم تكن على ما يرام بعد تعليقها الملتبس بأنها لا تعرف إن كان الرئيس الفرنسي “صديقاً أو عدواً” [لبريطانيا].

إذاً، لماذا شاركت تراس في قمة براغ؟ في مقال صحافي تزامن نشره مع رحلتها إلى براغ، قالت تراس “إن هناك قضايا مصيرية تؤثر في أوروبا كلها” -منها الحرب في أوكرانيا، وأمن قطاع الطاقة، والهجرة- والتي تؤثر في المملكة المتحدة أيضاً. وذكرت تراس أيضاً أهمية أن يكون لدى دول أوروبية غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل أوكرانيا، والنرويج وسويسرا (ومن المحتمل المملكة المتحدة) “صوت قوي” ومسموع في الشؤون الأوروبية، مشددة على “أننا نشارك كدولة مستقلة ذات سيادة وسنتصرف على هذا النحو”. فها نحن ذا يا بروكسل [لتسمع بروكسل أصواتنا].

ولكن لن يكون علينا النظر بعيداً كي نفهم أن هناك أسباباً أخرى [وراء مشاركتها]. فوقوف تراس إلى جانب أكثر من أربعين زعيماً وطنياً في مكان ذي جاذبية تاريخية هي صورة لن تكون مضرة لسلطة أي زعيم وطني، كما أن هنالك أيضاً ما يمكن تسميته بالعقاب لمن لا يحضر المناسبة.

فإذا كان جميع الزعماء حاضرين، وأحدهم لم يحضر، فإن الغياب هو ما سيحتسب ضده وليس بالضرورة ما سيقدمه للمجتمعين، وسيكون ذلك هو ما ستنقله وسائل الإعلام في نشراتها الإخبارية، وسيرسل ذلك رسالة فحواها إما أن دولتك قد تم عزلها من قبل البقية، أو أن تلك الدولة تعمل على عزل نفسها عن سابق إصرار. ففي عام 2007، مثلاً، تأخر رئيس الوزراء حينها غوردن براون، عن الوصول إلى البرتغال للتوقيع على اتفاق لشبونة [لإصلاح مؤسسات الاتحاد وعملية صنع القرار فيه] فما كان به إلا التوقيع على المعاهدة وحيداً، ما قام به براون حينها كان محاولة لتوجيه رسالة سياسية واحدة [بعدم جلوسه إلى جانب باقي زعماء الاتحاد]، إلا أن الأمر  انتهى به إلى إرسال مجموعة من الرسائل السلبية عوضاً عن ذلك.

وأيضاً قد تكون هناك تبعات على من يتخلف عن حضور مجريات بدايات مشروع جديد، كما كانت المملكة المتحدة قد تعلمت في الماضي ودفعت ثمناً لذلك، عندما تخلفت عن المشاركة في عملية تكوين السوق المشتركة، التي تطورت على مدى السنوات التالية لتصبح الاتحاد الأوروبي حالياً، حيث كان على المملكة المتحدة بعدها أن تعاني الإهانة واضطرارها إلى تقديم طلب للانضمام إلى السوق تم رفضه في البداية، قبل أن تنضم لاحقاً إلى مجموعة لم تسهم لندن في وضع مبادئها الأساسية. تراس أو من سيخلفها قد يشعرون في وقت ما بأن المجموعة السياسية الأوروبية غير فعالة، أو أنها “غير مناسبة لبريطانيا”، أو أن التجربة برمتها قد تندثر، لكن ما ستكسبه البلاد سيكون أكبر في كل الأحوال عبر وجود بريطانيا ضمن المجموعة المؤسسة بدلاً من كونها خارجها، بخاصة أن القرارات الأساسية عادة ما تتخذ في فترة مبكرة من حدوث تلك التجمعات، كما أنه ستتاح فرص أخرى للانسحاب من المجموعة في وقت لاحق إذا ما قررت الحكومة ذلك!

يبقى أن نرى ما إذا كان وجود تراس يمثل تغييراً للأفضل في نهج المملكة المتحدة تجاه الاتحاد الأوروبي، كما يأمل داعمو هذا الأخير. فحضورها القمة قد لا يعكس أكثر من الجملة التي رددها السياسيون البريطانيون في الأشهر التي تلت “بريكست” وهي “نحن سنغادر الاتحاد الأوروبي، إلا أننا لن نغادر أوروبا”، لكن ما يحسب لتراس هي أنها لم تقم بحرق الجسور، أقله حتى الآن!

لكن يمكننا ربما تلمس شيء من التغيير، وإن كان ذلك على مستوى اللهجة، في ما يخص قضية بروتوكول إيرلندا الشمالية العالقة حتى الآن ــ لكن ومرة أخرى قد تكون اللهجة شيئاً والمضمون شيئاً آخر تماماً.

على رغم ذلك، هنالك نهج مختلف إلى حد ما ربما هو في طور التبلور، وهو على شكل التوجه لاتباع سياسة خارجية متعددة الجوانب. هذا التغيير الظاهر بالطبع يمكن تفسيره ببساطة من خلال الصدفة التي ولدتها جداول المواعيد الدبلوماسية الطارئة والمجدولة مثل جنازة الملكة الرسمية التي جرت في لندن، والتي تلتها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية في نيويورك، وحالياً انعقاد اجتماع قمة زعماء المجموعة السياسية الأوروبية في براغ، لكن تراس لم تنجح حتى الآن في لقاء أي من زعماء الدول خارج إطار المناسبات الدولية الموسعة. حتى اجتماعها على انفراد مع الرئيس جو بايدن لم يكن -كما كان الوضع مع اجتماع تيريزا ماي [رئيسة الوزراء السابقة] مع الرئيس دونالد ترمب- نتيجة ما بدا أنه حط من قدر بريطانيا عندما هرعت لتكون أول من يجتمع مع الرئيس ترمب في البيت الأبيض.

المسألة ربما تكون أيضاً مسألة شخصيات مختلفة. فبوريس جونسون كان ينظر إليه دائماً على أنه فرقة دبلوماسية مكونة من شخص واحد كرئيس للوزراء، و”العلاقة الخاصة” التي كونها مع الرئيس [الأوكراني] فولوديمير زيلينسكي شاهد على ذلك بشكل واضح جداً. مهما قد يكون السبب، تراس تبدو وكأنها تبدأ مشوارها من خلال محاولتها بذل الجهود كي تظهر بمظهر اللاعب ضمن الفريق، ولكن إلى متى سيدوم أي نهج توافقي ستتبعه هو مسألة أخرى. فحتى قبل مغادرتها إلى براغ، كانت لندن بصدد تقديم عرض لاستضافة اجتماعات زعماء المجموعة السياسية الثاني في المملكة المتحدة (لكن سرعان ما علم أن الاجتماع الثاني سيعقد في مولدوفا، وأن المملكة المتحدة هي في المرتبة الرابعة على لائحة الانتظار [لاستضافة اجتماعات مقبلة للمجموعة]). غالباً ما يبدو أن أي تجمع تعرب بريطانيا عن رغبتها في الانضمام إليه إلا وتظهر إصرارها على لعب “دور قيادي” فيه. فهل ستنجح رئيسة الوزراء تراس هذه المرة في ترك الغرور البريطاني خلفها؟ وهل سيسمح لها حزبها والحكومة التي تقودها في القيام بذلك؟

وإذا كان كذلك، فربما يكون السبب الرئيس من وراء زيارة تراس إلى براغ هو أفضلها وهو: اعتراف المملكة المتحدة بالتجمع السياسي الأوروبي، أو شيء من هذا القبيل، باعتباره فكرة جيدة، حتى ولو تم ابتكارها من قبل فرنسا.

لطالما طرح السؤال عن كيفية التعامل مع الجيران مصاعب وتسبب في خلافات في وجهات النظر منذ اليوم الذي تشكل فيه الاتحاد الأوروبي. إلا أن المسألة تم حلها جزئياً من خلال وضع الكثير من الشروط الاقتصادية والقانونية على الدول حتى قبل وضعها كمرشح محتمل للانضمام إلى الاتحاد، ناهيك بالشروط المطلوبة لتصبح عضواً كاملاً. حتى في ذلك الوقت، يمكن للمرء أن يجادل أن بعض الدول قد سلكت طريقاً سريعاً نحو عضوية الاتحاد الكاملة وذلك لأسباب سياسية بحتة إلى حد كبير، وهو ما فتح الباب أمام بعض الانقسامات في الرؤى والأولويات التي نلاحظها اليوم.

أما بقية الدول فتم التعامل معها تحت بند “سياسة الجوار الأوروبية”. ومن ضمن تلك الدول بلدان غرب البلقان، والتي لا تخفي امتعاضها المتزايد من التعامل معها باعتبارها دولاً من الدرجة الثانية. وفي هذه الأثناء تبقى مسألة عضوية تركيا معلقة بشكل من الأشكال لأكثر من ثلاثين عاماً.

وحتى الاجتياح الروسي، كانت أوكرانيا مثال تقليدي على تعامل أوروبا بشكل ملتبس مع كييف. فالاقتراح بتوقيع اتفاق إطار مع الاتحاد الأوروبي قد حرك انتفاضة شعبية في كييف عندما رفض رئيس أوكرانيا آنذاك المقترح الأوروبي. إن المشكلة الحقيقية تكمن في أن البعض في الاتحاد الأوروبي رأوا في الاتفاق المقترح بديلاً بعيد المدى لعضوية الاتحاد الكاملة، فيما رأى فيها آخرون أنها خطوة نحو العضوية. وبما أن أوكرانيا قد تم وعدها عملياً بأن تصبح عضواً في الاتحاد بسبب انتصاراتها العسكرية [الأخيرة] وهو الأمر الذي لم يكن ليفوت على دول البلقان، حيث يشعر البعض هناك أن الحرب قد منحت أوكرانيا مساراً أسرع نحو العضوية. فهل عليهم أن يواصلوا مطالباتهم أم أن عليهم أن يستديروا نحو موسكو لتطوير علاقاتهم معها؟

يبقى السؤال المطروح حالياً هو ما إمكانية انضمام أوكرانيا الكامل إلى الاتحاد الأوروبي على المدى القريب! لكن مبدأ الرئيس ماكرون الداعي إلى قيام أوروبا مكونة من دوائر متحدة حول المركز الذي هو الاتحاد الأوروبي ربما يشكل مخرجاً من نوع ما. فهذه الفكرة تسمح للدول التي لديها اقتصاد وقوانين تتناسب بشكل كاف مع الاتحاد الأوروبي ـوهي دول مستعدة وسعيدة في التضحية بقدر معين من سيادتهاـ للمضي قدماً نحو تلك الوحدة التي تصبح أقرب كل يوم، وهي الوحدة التي يكرهها مؤيدو “بريكست” في المملكة المتحدة، كما أن ذلك الوضع الجديد سيسمح لأولئك الذين لا يريدون، أو أنهم غير قادرين، على تحقيق ذلك القدر من التكامل أن يبقوا ضمن هذه المجموعة أو تلك.

المشروع يشبه كياناً أوروبياً يندرج فيه الأعضاء كل بما يناسبه بحسب لائحة المواصفات الممكنة، وكان قد اقترحه آخرون في السابق، ولكن مع تضمينه هيكلية رسمية وقبول أكبر للاختلافات على المدى البعيد. علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت المجموعة السياسية الأوروبية، هي شيئاً قد يلقى قبولاً لدى تراس وحكومتها المؤيدة للخروج من أوروبا ــ أو من سيأتي من بعدهم.

في هذه الأثناء، لقد وضعت رئيسة الوزراء بعض الخطوط الحمر المعتادة. إن على المجموعة [الوليدة] بحسب قولها “ألا تتعارض مع دول مجموعة السبع الاقتصادية G7، أو حلف الأطلسي ويجب ألا تتحول إلى تجمّع لتبادل الأحاديث [والتقاط الصور] فقط”. بكلام آخر، إن المملكة المتحدة سترفض كل ما من شأنه أن يشكل تهديداً لموقعها على رأس الطاولة، وكلما كان التجمع مركزاً على روسيا، أو بالأحرى بقدر ما يكون المشروع الجديد مرتكزاً على معارضة روسيا، كان ذلك أفضل (لكن تركيا، إضافة إلى دول أخرى، قد يكون لديها ربما تحفظات على ذلك).

ففي خطوة قد تشير إلى تردد متجدد حيال سياسة غلق الأبواب [مع أوروبا]، فإن قرار رئيسة الوزراء المتأخر المشاركة في قمة براغ قد يشي بشيء آخر أيضاً. إن سياسة المملكة المتحدة الخارجية بصدد التغير مرة أخرى. فمعظم ما قيل عن “المراجعة الشاملة” Integrated Review  التي نشرت في مارس (آذار) الماضي كأساس يحدد وفقها موقع المملكة المتحدة في عالم ما بعد “بريكست”، قد أصبح مصيرها غامضاً حالياً، أولاً بسبب الحرب في أوكرانيا، وأيضاً بسبب رحيل بوريس جونسون عن رئاسة الحكومة. تلك المراجعة الآن طلب إعادة كتابتها من جديد، وبمشاركة البروفيسور جون بيو أيضاً، الشخص الأبرز في المراجعة السابقة وواحد من عدد قليل ممن نجوا من عمليات التصفية التي أجرتها تراس تجاه المستشارين الذين كان قد عينهم جونسون. إن المراجعة المحدثة قد تعطينا أول المفاتيح عما ستكون عليه سياسة تراس الخارجية ــ إذا كانت لا تزال في منصبها وقت نشر المراجعة المحدثة!

أندبندنت عربية

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى