كتب

“وسائل إعلام..التيه الكبير”.. حينما يفقد مُعظم الفرنسيين الثقة بإعلامهم

خِلافًا لما يَعتقِدُهُ الكثيرونَ تحتَ وطأةِ الخطابِ السياسي الظاهري، فالإعلامُ الغَربِيُّ بِوجهٍ عامٍ والإعلامُ الفِرنسي بوجهٍ خاص ليسَ حُرًّا ولا دِيمُقْراطِيًّا بِشَكْلٍ سليمٍ وكاملٍ، إذا ما استندنا إلى حَقَائقَ تَبْدُو مُناقضة للتَّعدُّدية الإعلامية والفكرية في نَظَرِ الكاتب نِيكولا فيدال.

فِي كِتابٍ يقعُ في 139 صفحة من القطع المتوسط، دافعَ هذا الكَاتِبُ عن مقاربته الثاقبة بالأرقام والنِّسبِ والمعلوماتِ الهامة وغير العادية، كَاشِفًا عن إعلامٍ تائهٍ في التَّزيِيفِ والتَّضليلِ والتَّشويهِ، ومُبيِّنًا كيفَ ضَحَّتْ لُوبياتٌ صِناعية وتِجارية بالمصلحةِ العامَّة خِدمةً لمرُكَّبٍ أصْبَحَ يُوَجِّهُ الصحافيين ويُراقِبُهُم وَيَستَعْمِلَهُم كَعَسَسٍ في وجهِ حركاتٍ احتجاجية ومُعارِضِين يُقدَّمون إعلاميًا كمُتآمِرين لِمُجرَّدِ أنَّهُم يُشكِّكُون في الخطاب الرسمي، ويقرأون المفاهيمَ وَيُحَلِّلُونَ المواجهاتِ والتحدياتِ والمشكلاتِ السياسية والاجتماعية من مَنظُورِ صِراعِ  المصالحِ المتضاربةِ والانتماءاتِ الطَّبَقية.

..الحضورُ المُخَالِف

نيكولا فيدال مؤلف كتاب “وسائل إعلام.. التيه الكبير” يُذكِّرُنا بمقولةِ الثَّائِر والمناضل الأميركي الأسود الشهير مالكوم إكس: “الإعلام يُحوِّلُ الشيء المُحَبب إلى شيءٍ مَكْرُوهٍ، والشيء المكروهِ إلَى شيءٍ مُحبَّبٍ”، لأنه اتخذَ منَ المُعَالجَة الإعلامية العُمومية والخاصة لحركة “السُّتُراتِ الصَّفراء” التي هزَّت فرنسا مَصْدَرًا ومِعْيَارًا أكَّدَا حجمَ الكُرْهَ الذِّي طالَ السُّتراتِ الصَّفراء. ويذهب الكاتب إلى حد اعتبار التَّشويهِ الذي لحق بالسترات الصفراء على أيدي كُتَّابٍ وصحافيِّين، قد أضحى منهجًا مدروسًا إعلاميًا وإيديولوجيًا بسابقِ إصرارٍ وَبِدِقَّةٍ محسوبةٍ تستهدف كل جهة تحمل وتجسد لواء الاحتجاج السياسي والاجتماعي. وَيتم تصوير هذا الاحتجاج، في تقدير الكاتب، بِشكْلٍ مُرِيبٍ وَمُرادِفٍ للتَّطرُّفِ وَلِلعُنفِ المرادفين لإيديولوجية الحالمين بتغيير طبقي أكل الدهر عليه وشرب، وأدّى إلى كل أشكال القمع والتنكيل والتهميش في نظر رأسماليين وليبراليين يمارسون الشيء نفسه بطريقة ناعمة ومخادعة. في نظر رفقاء درب فيدال، احتكار الوسيلة الإعلامية الحرة شكليًا نتيجة توجيهها بقوة المال والأعمال التجارية، حقيقة تمكن أصحابها من توجيه الإعلام من منظور معتقدهم الإيديولوجي القائم على تسخين رأسمال، وطهيه على نار هادئة تضحي حارقة لكل الاعتبارات والقوانين الإنسانية، حسب كارل ماركس، الذي ما زال حيًّا يرزق في أذهان الملايين رغم انتصار الليبرالية حسب فرنسيس فوكوياما، ومن بينهم أنصار يسار اليسار الذي يمثله آليا السترات الصفراء حسب ممثلي ومناضلي اليمين واليمين المتطرف والاشتراكية البرجوازية الوردية.

الكتابُ الصادرِ عن دار “هيغو وثائق” في سلسلة “إنذار” – وليسَ عن دورٍ شهيرة مثل غاليمار وغراسيه وفلاماريون وألبا ميشيل- هو الكتابُ اللافتُ والمثيرُ بلغتِه المُباشِرة والبسيطة التي تُخاطِبُ العامَّةَ من المواطنين، وفي الوقت نفسه، قادةَ الرأي من الكُّتاب والصحافيين النخبويين والمدافعين عن “الملك الجمهوري” وعن ملوكِ المالِ والأعمالِ كما فَهِمْنا مِن صَاحِبِ كتابٍ صَغيرِ الحجمِ، لكن كبير الخلفيات والمرامي والمعاني.

هنا إطلالة مُتأنِّية على كتابِ فِرنسي لم أسمعْ بهِ رغمَ فُضَولي المَرَضي، ولولا تجوُّلي المُنتَظَم عبرَ أروقَةِ بيع الكُتب في المحلات التي تبيعُ الحليبَ والخبزَ والخضار، لما تمكَّنتُ من عرضه في سياقٍ مِثالي يَكشِفُ عن استباقِ كاتبٍ لأحدث تَطُوّرٍ تلفزيوني يُشكِّلُ خَطَرًا على الديمقراطية كمَا يعتقد.

نيكولا فيدال ليسَ صحافيًا عاديًا مثلَ كِتابِه، وكان من الطَّبيعي أن يكونَ حُضُوره مُخالِفًا للقِوى المُهيمنة على المشهد الإعلامي التقليدي، وتمردًا على التوظيف الإيديولوجي لوسائل إعلامٍ تمادتْ في تكريسِ خريطة طريق الفِكر الوحيدِ على حدِّ تعبيرهِ في العُنوان الفرعي لِكِتابِه. بَعدَ دِراسةٍ جامعية في كُليِّةِ التاريخِ والفلسفة، هاجر نيكولا فيدال إلى الولايات المتحدة التي مكَّنَتْهُ من مُعايَشةِ ثورة تِكنولوجيَا الإعلام الإلكتروني البديل، الذِّي وَظَّفَهُ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إلى فرنسا بشكلٍ غير مسبوقٍ مُحَارِبًا أساطينَ الإعلامَ التقليدي كما سنرى. وانطلق كمقاول عام 2008 بقوةٍ خارقةٍ لافتًا الانتباهَ بتأسيسه موقع “بي سي إس نيوز”، أول مجلة ثقافية إلكترونية في فرنسا، واستطاع أن يصنع لنفسه اسمًا إعلاميًا وثقافيًا في فترةٍ قياسيةٍ بإمكانات محدودة وبمقاربةٍ أصيلةٍ في مجالِ الإعلامِ البديلِ الذي يَفْلِتُ للدولة ولقِوى المالِ والأعمالِ على السواء. عادَ مُجدَّدًا إلى حبِّه الأول وإلى قضيته التي تُبرِّرُ وجوده عام 2018 في عزِّ أزمةِ الصحافة مُؤسِسًا “بوتش”، أول قناة تلفزيونية إلكترونية، واتخذَ من إرساءِ وتَشجيعِ الحوارِ الثّقافي والاجتماعي الحرِّ والمتاحِ لكل أصحابِ الآراء والتوجهات المتنوعة هدفًا مصيريًا.

يُنْشُطُ صاحبُ الكتابِ الذي تَمَّ التَّعتيمُ عليهِ، في قَنواتٍ تَبُثُّ على مدارِ النَّهار والليل، قناة “بوتش” اليوتيوبية التي يتابعها أكثرَ من 60 ألف مُشاهِدٍ حتى لحظة كتابة هذه السطور، وَيظهُرُ بشكلٍ مُنتَظم كَضيفٍ سياسيِ في “أرتي فرنسا” القناة الروسية، التي قال عنها في صُلْبِ كِتابِه إنهَا استفادت من تغييب الرأي الآخر في الإعلام الفرنسي التائه في هروبه نحو الأمامِ.

..الخطر الذي يهدّد الديمقراطية

كَتبَ نيكولا فيدال بالاتفاقِ معَ نَاشِرِهِ المجهولِ، مُقارنةً بِدُورِ باريسِ الكُبرى: “في كتابي.. “التيه الكبير”.. أُحلِّلُ سببَ عدمِ ثِقَةِ مُعظم الفرنسيين في إعلام بلدهم نتيجة انحراف الصّحافي عن مهامِهِ التاريخية المعروفة، والبحث عن حجمِ غيابِ المصداقيةِ في وسائلِ إعلامٍ تحوَّلت إلى أحدِ أخطرِ أعراضِ مرضِ الديمقراطية، والذِّي أصبحَ أمرًا مُقْلِقًا فِعلًا في السنوات الأخيرة على الصعيدين الصحافي والسياسي. هذا الأمرُ، انعكسَ في تَدَهْوُرِ نوعيةِ المضمون وضياعِ المعنَى، الشيءُ الذي أدَّى إلى عزُوفِ أغلبيةِ الفرنسيين عنهُ. الأزمةُ الصِّحية، والصراعات الاجتماعية المتمثّلة في احتجاجات السُّترات الصَّفراء ومَا رافقَهَا مِن إصرارٍ على مُناهضة نِظامِ إِصلاحِ التقاعد، من الأدلة الدامغة التي وسَّعت الشرخ بين الصحافةِ الوطنيةِ الكبيرة وفرنسا الأقاليم البعيدة عن العاصمة باريس. فهل خَضَعت وسائلَ الإعلامِ لزواجِ الأقاربِ في المجالِ الصحافيِ وإلى المحاباةِ المَصلحية على حسابِ حقِّ مُعظم الفرنسيين في الإعلام؟ هل يجبُ الذَّهابُ إلى حدِّ تجريمِ صحافةٍ دوغمائية ومذهبية إيديولوجيا، ومنفصلة عن فرنسا الأقاليم المهانة؟”.

بهذَا التقديم المعزَّزِ بسؤالين وجيهين وحاسمين، عرف الكاتب فيدال كيف يستدرجُ القرَّاء للتمتع بمضامين 12 فصلًا قاربها بمنهج تاريخي ووصفي وتحليلي، مكَّنَه من الإحاطة بخطر فرنسي اسمُه عزوفُ مُعظمِ الفرنسيين عن الإعلام بشكلٍ يَسمَحُ بإعادةِ النَّظَرِ في مَفهوم الديمقراطيةِ جوهريًّا بعيدًا عن عمليات ذرِّ الرمادِ في العيون، والتي لا تَنْطَلي إلاَّ على مَحدودي النَّظر والتَّفكير. وعالج الكاتبُ في كلِّ الفصول بتدرُّجٍ منهجي محسوب، مُنتقِّلا من المعالجة النظرية إلى المحك العَملي، الصحافة كبوصلة للديمقراطية والنظام الإعلامي الدائر في فلكِ الصحافيين والكُتَّاب الأقارب إيديولوجيا وشخصيًّا، والقنوات الإخبارية المتمادية في توجُّهِها الأحادي رغم التعددية الفكرية التي تَفرضها تطوُّرات الأفكار المجسّدة في الواقع الاحتجاجي الفرنسي.

تضمّن فهرس الكتاب أيًضا عناوين: الرئيس ماكرون كمُرشَّحٍ لوسائل الإعلام، ونهاية الشَّرعية الديمقراطية في عالمِ الإعلامِ، وصراعِ إِعلامِ كتلةِ النُّخبة وكتلة الشعب، وقناة “أرتي” (RT) الروسية والإستراتيجية الرابحة للصوت الإعلامي التعددي، والغلقِ كأرضية خصبةٍ للإعلام البديل المضاد، والأزمةُ الصحية كدليل على الشرخِ الفاصل بين إعلامِ النُّخبة وبين أغلبية الفرنسيين، وتآكل مُهمَّة الإعلام النّخبوي المغلق والطلاق المبين بينه وبين مفهوم المواطنة والتضحية بمفهوم الخدمة العمومية على مذبحِ مصالحِ النخبةِ الضَّيقة المكوَّنة من صحافيين وكُتَّاب مُتحالفين مع قوى المال والعمالِ الممثِّلِين لحساسيات ليبرالية تتقاطع اقتصاديا وإيديولوجيًا رغم الفوارق الشكلية القائمة بينهم سياسيًا.

.. 76 بالمائة فقدوا الثقة في الإعلام

في مقدمةٍ نارية أكَّدَ فيها عُزوفَ 76 بالمائة من الفرنسيين عن إعلام بلدهم، كتب المؤلف مضيفا: “إن تراجيكوميديا الصحافيين والكُتَّاب الحاضرين في ستوديوهات القنوات الإخبارية التلفزيونية والإذاعية على مدار 17 ساعة من 24، إنهم يتحدَّثُون عن كل الأحداث بكل أَشكالِها الممكنة، ويَتُوهون في التحليل والشَّرح مُعلقين على كورونا وعلى أزمة لبنان والاتحاد الأوروبي والبيئة، ومُفسِّرين مدى صلاحية ارتداء الكمامة أم لا، ومُتحدّثين في الوقت نفسه عن الجدل القائم حول نظام إصلاح التقاعد والأمن والإرهاب، وعن خضار الموسم أيضًا”. الصحافيون والكتّاب الذين أصبحوا يُشكِّلُون عائلة تَطُلُّ على الفرنسيين يوميًا على حدّ تعبيره، لا يَتردَّدون في مناقشة كل المواضيع من منطلقات إيديولوجية واحدة حاملين ومجسّدين المعرفة الشاملة، ويفعلون ذلك مُختفين تحت رداء حضور بعض الصحافيين المعارضين الذين يخالفونهم الرأي شكليًا، ولا يؤثرون جوهريًا على خطتهم المحبوكة القائمة على حضور قوي ومُحدَّد لأصحابِ المواقفِ التي تَصُبُّ أكثرَ في إناء الماسكين بزمام الأمر، كقوى مالية وتجارية تَجدُ مصالحها في خطاب الرئيس ماكرون.

الصحافيون والكُتَّاب الذين يَتَّهِمُون كلَّ من يُخالفهم الرأي بالشعبوية والروح المؤامراتية، ويَعمَلون بِطلبٍ من القنواتِ الإعلامية العامة والخاصة، هم عادة من أبرز كتاب الافتتاحيات والمُعلِّقين في الصحف والمجلات الباريسية الكبرى، ولأنهم يَستجيبُون لِمَا يُريد من أسماهم الكاتب بـ”خدم الملوك السياسيين” في الجمهورية العلمانية، تَجِدُهم يتنقلون من ستوديو لآخر على متن سيارات أجرة لمناقشة قضايا الساعة في كل المجالات والتخصصات بعزيمة لا تلين. “السُّترات الصفراء” التي اتخذها الكاتب مُنطَلَقًا لِكتابِه إلى جانب قضايا أخرى ومنها الأزمة الصحية الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، هي السُّترات التي تُمثِّلُ في تقديره المواطنين الذين تُجنِّدُ القنوات العمومية والخاصة من أجلهم جيشًا من الكّتَّاب والصحافيين لمحاربتهم على مدار النهار والليل في شكل هستيري وفولكلوري وأحادي لا يسمح بتعدّدية فكرية حقيقية، رغم محاولات إيهام المشاهد بذلك. تواطؤ نخبة صحافية وكتاب محسوبين على الفكر ظلمًا وعلى رأسهم إريك زمور، أضحى أمرًا تراجيكوميديا خلال الأزمة التي شَهِدَتْهَا فرنسا في عز احتجاج السترات الصفراء، وكان من الطبيعي جدًا نتيجة ذلك أن يفقد 76 بالمائة من الفرنسيين الثقة في إعلامٍ يُحاربهم جَهرًا مُدافعًا عن مُقارباتِ قادة المركب الصناعي والتجاري والمالي الذي ساهم في انتصار الرئيس الحالي، في نظر نيكولا فيدال. “إعلام البراز” – معذرة على التعبير، والكاتب هو الذي استعمله حينمَا قال إنَّ الكثير من الفرنسيين يَتَحدَّثون عن إعلامِ بلدهم بهذا الشكل (les merdias) وليس (les médias)ـ  هو الإعلامُ الذِّي لم يَعُد سُلطةً مُضادة في تقدِيره بعد أن أَثْبَتَ سبرُ آراءٍ في العام الماضي أن الشَّرخَ بين أغلبيةٍ من الفرنسيين والإعلام قد تزايد بشكل يُحيلُنا على واقع الموتِ السِّياسي في البُلدان التي يُطلق عليها في فرنسا بجمهوريات الموز، وهي الجمهوريات التي تَلقى دعمَ وطن فولتير رغمَ أنَّها تَدُوس على حقوقِ شعوبها على مرأى ومسمع العالم الغربي بوجهٍ عام. وليست بلدان الموز الأفريقية، هي وَحْدَهَا التِّي تَجِدُ في فرنسا السَّند التاريخي اللامشروط، وحتى البلدان المغاربية تحظى بِدورِها إعلاميًا وسياسيًا بحمايةٍ تَقفِزُ إلى العيونِ كما يقول الفرنسيون، وما تأييدُ السُّترات الصفراء لحراك الجزائريين سوى دليل على مَصْلَحَةٍ مُشتركة بين طرفين يبحثان عن فُسحةِ تعبيرٍ تَعدُّدي حقيقي وغيرَ وهمي ومخادع.

عبرَ حيلةِ (تكرار الحديث بصفةٍ مُتعمدة من مُنطلَقٍ دعائي مُبرَّرٌ منهجيًا واستراتيجيًا كاتصال سياسي) من الضيوف الذين “يَسْكُنون” ستوديوهات القنوات التلفزيونية والإذاعية العمومية والخاصة والأخيرة بوجه خاص، تحدَّث الكاتبُ عن بُلوغهم درجةِ لَعِبِ دور قضاة ومناضلين، وهم يَنْشطون ويُوَجِّهُون الحديثَ في القنواتِ التي يملِكُها أصحاب المليارات، ومن أشهرهم باسكال برو، الذي مكَّن قناة “سي. نيوز” التي يملِكها رجل الأعمال فانسان بولوريه من اقتناص صدارةِ المشهدِ التلفزيوني بعد صراع محموم مع قناة “بي. أف. أم. تي. في” التي انهزم فيها الصحافي القدير ألان دوهامل أمام إريك زمور الموهوب في شيطنة المهاجرين والمسلمين، في خلطٍ مُبرمجٍ ومدروسٍ بينهمُ وبين الإسلاميين الإرهابيين بدعمٍ من جان مسيحا، الفرنسي المصري الأصل.

..الربح على حساب تعددية الحرية الحقيقية

في نظر الكاتب فيدال، لا يُمكِنُ فهمُ ما آلت إليه أوضاعُ الصحافةِ في فرنسا من قَتلٍ مُتعمّدٍ للتعددية الفكرية والإعلامية الحقيقية في تقديره من خلال تراجع مهمة الإعلام العمومي المشرّع نظريًا على كل ممثلي التوجهات الاجتماعية، إلا بالحديث عن خُطَّة أصحابِ المصالح المالية والتجارية الكبرى الذين تأكَّدوا أن التعويض عن الخسائر التي مُنيت بها وسائلُ الإعلام وتزايدِ مختلفِ التكاليف لا يتَحقَّقُ إلا عن طريق الحد منها بطرد الصحافيين الموظفين والتشجيع على الرحيل الطوعي والاعتماد على الإثارة المدِرَّةِ للإشهار الذي يتخلل حديث صحافيين وكتاب يشتغلون لصالح رجال أعمال ومال ليبراليين ينتقمون من يساريين تَسبَّبُوا في خرابِ فرنسا، كما يقول زمور، عرّابُ ورئيسُ جمهورية الأحباب الإيديولوجيين الجدد الذين يلتقون في ستوديوهات القنوات العمومية والخاصة على السواء.

جناحُ الخير الذي قرَّر مُواجهة كل أجنحةِ الشَّر من الغيُورين على الشعب الكادح – ومن بينهم السترات الصفراء الذين وَجَدوا في الكاتب فيدال المدافع عنهم عبر إعلام وسائل التواصل الاجتماعي البديل- هو الجناح الذي قرَّرَ عدم استضافة هذا المشاغب أو ذاك في بلدٍ يدَّعي الديمقراطية، وإذا استضيف أحدهم لأنَّ الحدث يفرِضُ ذلك، فإن خطة الإجهاز عليه ومحاصرته ومحاكمته والتشنيع به وحتى السخرية منه تُعدُّ خُطَّةً تدخُل في صلب إستراتيجية الإثارة وليس في جوهر النقاش الفكري الرصين والهادئ.

إعلام أصحاب المليارات، حسب تعبير الكاتب، قضى على الفكر التَّعدُّدي، وكل من يُناقشهم أو يشكّك في طروحاتهم كما أدت ذلك أزمة كورونا، يُصبح مَشبُوهًا ومُمَثِّلا لتيار المؤمنين بالمؤامرة، ومن بينهم كلُّ من يعتمدُ على وسائل التواصل الاجتماعي للبرهنة بالدليل على تهميش الأصوات المعارضة في الإعلام العمومي الرسمي بشكل مباشر والخاص بشكل غير مباشر، وعلى كذب سياسي موصوف وعلى مناورات يَضحكُ أصحابُها من خلالها على أذقانِ مواطنينَ أصْبحوا يَعُون خلفيات قراراتٍ سياسية وتوجُّهاتٍ إعلامية تخدم جهاتٍ لا يَهُمُّها إلا الربح. ومن بين هذه القرارات إزاحة البروفيسور إريك راوولت من المشهد الإعلامي بعد أن خرج عن بيت الطاعة صائبًا أو مخطئًا إثر محاولته انتهاج درب غير درب الأغلبية من رفقاء مهنته وتخصصه. أعدم راوولت إعلاميًا، وخرج إلى النور الإعلامي المسّطر عشرات البروفيسورات الذين يَتَحدَّثون بنفس الطريقة، مثل الصحافيين المشتركين في قنوات يَستيقظ ويَنامُ على ظهورهم فرنسيون غير أغبياء.

إن تيه الإعلام الرسمي بشكله المفضوح والمباشر في بلدانِ الموزِ أو في بلداننا المتخلِّفَة والقمعية في الكيل بمكيالين وفي المتاجرة بخطاب مزدوج المعايير، وخاصة حينما يتعلَّقُ الأمرُ بمصالحَ حيوية تُحدِّد الحياة والموت، لا يختلفُ في جوهرِهِ عن مَثيله في بلدانٍ أوروبية تحمل شعارات الديمقراطية والعدالة والحرية، والفرقُ يَكمُنُ في درجاتٍ ووسائلَ تهميشِ من يُهدِّدُ مصالحَ أصحابَ سُلطَةٍ تقومُ على المال أولا وأخيرا، في شكل صراع إيديولوجي وعقائدي ظاهريا.

هذا ما فَهمته من كِتاب نيكولا فيدال المعروف بتوجهه المُهدِّد لمواقعِ أربابِ المال والأعمال الذين يَجدُون مصلحتهم في التغطية على مشاكلَ وتجاوزاتِ بلدانهم بـ”الإرهاب الإسلامي” فقط، والذي يَصنَعُ رِبحهم كرؤساء تحرير في كواليس القنوات التلفزيونية الخاصة الأشهر في فرنسا الزمن الماكروني.

 

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى