في الواجهةمقالات

تمكنت الجزائر من تفادي امتداد حرائق الثورات العربية، لأن الشعب كان قد خزّن من المآسي ما جعله يرفض الدخول في أي مغامرة، وتمكنت الدولة/السلطة من جهتها من شراء السلم المدني ورشوة المجتمع كلياً برفع الرواتب ثلاث مرات وأكثر، وتبذير المال العام لحماية استمرارها، مما جعلها تواجه أزمة حقيقة هي خلقتها، حاولت حلها بطبع النقود كمن يطبع ورقاً عادياً دون تغطية حقيقية بالذهب والعملة الصعبة. المحصلة، السقوط في مخاطر التضخم. ساعدها أكثر انحراف الثورات العربية نحو أهداف تدميرية للكيانات العربية المستقرة نسبياً.

بدل أن تغير الثورات أو الانتفاضات الأنظمة، أصبحت الأنظمة الديكتاتورية العربية هي المستفيد الجديد ولا شيء تغير. حلت وجوه جديدة محل القديمة، وهي ذات المنبت الديكتاتوري، دون تغيير حقيقي. وغرقت دول عربية أخرى في حروب أهلية مدمرة ما تزال إلى اليوم هي المتحكم في الأحداث والوقائع. المحصلة النهائية لا شيء حقيقياً سوى تدمير البنى التحتية لهذه الدول، بغض النظر عن الأنظمة الديكتاتورية في مجملها والعسكرية. ووقعت فجأة البلاد العربية تحت الوصاية الدولية أو الاستعمارات الجديدة، بشكل يكاد يكون شرعياً، فتدخلت كمنقذ.

سوريا مزقت أوصالها بين تركيا وروسيا وحزب الله وأمريكا، وليبيا غرقت في حرب أهلية استهلكت كل طاقاتها، يتقاتل فيها طرفان لكل واحد منهما ولاءاته. الثورة المنسية في اليمن تحولت إلى مرتع للحروب والانقلابات. البلد الوحيد الذي خرج ببعض السلام من هذا الخراب العربي هي تونس.

المرحلة الثانية من هذه الثورات كانت أكثر فنية وسلمية، لم تختر اسم ثورة، ولكنها اختارت تسمية: حَرَاك للتمايز عما حصل سابقاً. فهو يستند إلى الحركة الشعبية الواسعة بغض النظر عما هو سياسي، وكان الرهان في الجزائر منذ لحظة الحراك الأولى في 22 فبراير هو إزالة نظام فاسد مافيوي، وإسقاط رئيس كان محبوباً في البداية قبل أن يصبح مكروهاً، لأنه تحول إلى مجرد واجهة للنهب المنظم. من هنا جاء الشعار الذي ابتدعه شاب بطال سفيان، حرم من العمل في المطار الجديد ويعمل في إحدى بيتزيريات العاصمة. كانت مراسلة «سكاي نيوز» تغطي حدث استقالة الرئيس، فيتدخل هو على المباشر دون أن يكون مدعواً للحديث ويصرخ: ماكانش منها. نحاوا بيون وعاودوا داروا بيون آخر. يتنحاوا ڤاع… يتنحاوا ڤاع (غير صحيح. نزعوا بيدقاً وعوضوه بآخر. ليرحلوا كلهم. يعني ليرحلوا كلهم). «يتنحاوا ڤاع» أصبح هو شعار الحراك الأساسي الذي استلمه الحراك العراقي باللغة نفسها والطريقة نفسها، ثم انتهى إلى اللبناني: كلّن… يعني كلّن.

المسيرات في الحراك الجزائري بلغت في لحظات ذروتها في 8 مارس 2019، عشرين مليوناً، أي نصف التعداد السكاني، حيث ارتقت سلمية الحراك إلى الأعلى، وحيث كان من الصعب تخيل وصول الشعب من خلال شبابه إلى تلك الدرجة من الوعي بعد سواد سنوات الإرهاب الأعمى. مظاهر غير مسبوقة، وشابات جميلات يملأن الشوارع بلا أي اعتداء، وتوزيع المياه على الناس، وإهداء الورود للنساء، وشعارات شديدة الذكاء وغير مسيسة بشكل فج وأيديولوجي، وموسيقى ورقص في الشوارع، أناشيد وطنية، فرق غنائية شبابية انضم إليها محترفون مثل الصافي بوتله، وغيره.. جعلوا من البريد المركزي مكاناً للفرح والتغيير، شعارهم الأساسي «يتنحاوا قاع»، و«جيش شعب، خاوا خاوا» (الجيش والشعب إخوة… إخوة) وكان الشباب عندما ينتهون من المسيرات لا يدخلون إلى بيوتهم في الأحياء الكبيرة، لكنهم ينظفون الشوارع ويجمعون القمامة في أكياس خاصة، وهي نفس المظاهر التي رأيناها في الحراكين العراقي واللبناني، والسوداني قبل ذلك. وهذا يعطي حقيقة فكرة أننا كنا بصدد ممارسات نضالية جديدة. وعلى الرغم من محاولة السلطة ضرب الجزائريين بعضهم ببعض على أساس عرقي أو طائفي أو ديني، أو لغوي أو جهوي، فقد ظل شعار الدولة المدنية والمواطنة هو الغالب، وربما انعكس ذلك بشكل جلي على الحراكين العراقي واللبناني بشكل واضح؛ لأن البنية الطائفية مترسخة وواضحة اجتماعياً، وظلت السلمية هي شعار الحراك الجوهري على الرغم من الدم الذي سال في السودان والعراق، ومقتل الشاب الدرزي من عسكري.

لم يسجل الحراك الجزائري أي ضحية في اصطدام مع قوى الأمن، تسعة أشهر لم يسقط فيها شاب واحد. فقد كان الحراك خلاقاً على كل المستويات. لهذا، كانت تأثيراته كبيرة عربياً ودولياً، في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا مع أصحاب السترات الصفراء الذين رأوا فيه نموذجاً حقيقياً للمطلبية بالضغط على النظام سلمياً. في كل اللحظات الصعبة، استطاع الحراك أن يجد بدائله؛ مثلاً في شهر رمضان امتلأت الشوارع بموائد رمضان الطويلة للذين يأتون من خارج العاصمة، بشكل غير مسبوق أبداً.

على الرغم من أن الحراك اليوم لم يعد كما كان، إذ انسحبت منه الأغاني والأناشيد وأهازيج الملاعب والشعارات الذكية التي عُوِّضت بشعارات قاسية ضد رئيس الأركان، أفقدته سلميته اللغوية، تقف وراءها تيارات متطرفة وعصابات النظام تريد الزج بالحراك نحو الاصطدام.. لا يزال الحراك في عز عنفوانه. العنف اللغوي انتقل أيضاً إلى خطاب السلطة من خلال التهديدات وسجن كثير من رموز الحراك، مما جعل الناس يشككون في مصداقية هذا الخطاب الذي يرى نفسه هو الوحيد الذي يخاف على مصير البلاد، والبقية يكادون يكونون خونة. وأصبحت الشعارات موحدة عبر الوطن، ومسيسة كلياً. ويقاوم الحراك ذلك كله بشعبية العميقة والصادقة ومده الكبير المصر على السلمية.

لقد أصبح الحراك الجزائري مدرسة حقيقية جزائرية، وعربية ودولية، ستدخل في تاريخ الانتفاضات التي أسقطت العروش بوسائلها الشعبية العظيمة. الكل منتبه لهذا الحراك، ومصغ لتحولاته العميقة، إلا النظام الذي أصيب فجأة بالعمى والطرش. وبدل فهمه جيداً، يفتح في كل مرة حرباً جديدة ترتد عليه. الحراك ليس عصابة الكوكايين ونهب المال العام، أو الباحثين عن عذرية جديدة تخفي جرائمهم في العشرية السوداء، أو كمشة الانفصاليين (MAK) الذين تحركهم قوى خارجية غير مخفية، ولكنه المد الشعبي الواسع الذي يريد تغييراً حقيقياً وليس رسلكة جديدة لنظام بائد عاث فساداً في البلاد. متى يدرك النظام هذا بدل السقوط في التخوين والعنف المادي واللغوي السهل؟

القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى