مقالات

من يملك الكلمة في زمن المنصّات؟

سلام الكواكبي

تشهد السنوات الأخيرة تصاعداً حادّاً في النقاش بشأن مفهوم حرّية التعبير، لا سيما في ظل النفوذ المتزايد لشركات التكنولوجيا العملاقة التي باتت تتحكم في المنصّات التي تدور فيها أغلب النقاشات العامة في العالم. لم يعد هذا المفهوم، الذي كان يوماً من ركائز الديمقراطية الليبرالية، يعني الشيء نفسه، بعد أن أعادت “السيليكون فالي” تشكيله بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، وجعلت منه درعاً تلوّح بها في وجه أي محاولة لتنظيم عملها أو محاسبتها.

يمثّل إيلون ماسك اليوم التعبير الأكثر وضوحاً عن هذا التحوّل. الرجل الذي يقدّم نفسه مدافعاً عالميّاً عن حرية التعبير، لا يتوقف عن مهاجمة الحكومات والهيئات القضائية التي تتّخذ إجراءات قانونية ضد منصّاته الرقمية. من البرازيل إلى فرنسا مروراً ببريطانيا، لا يتردّد في اتهام الدول التي تطالب شركاته بالامتثال للقانون بأنها “عدوّة الحرية”. لكنه، في الوقت نفسه، يمارس على منصته “إكس” سلطات رقابية لا تختلف كثيراً عن التي يندّد بها، فيحظُر حساباتٍ ويعيد أخرى، تبعاً لمزاجه أو لمصالحه السياسية. المفارقة هنا أن هذا الخطاب “التحرّري” لم يعد يقتصر على ماسك، بل صار يمثل موقفاً واسع الانتشار في أوساط اليمين الأميركي الذي وجد في شعار حرّية التعبير وسيلة لتبرير مواقفه المعادية للتعدّدية والمساواة.

تاريخياً، كان الدفاع عن حرّية التعبير قضيةً تتبنّاها القوى التقدّمية في الولايات المتحدة، فهي من استخدمته للدفاع عن الحقوق المدنية وحرية التنظيم النقابي ومطالب الأقليات، غير أن المعادلة تغيّرت منذ سبعينيات القرن الماضي، حين استولى اليمين على هذا المبدأ وحوّله إلى سلاحٍ ضدّ ما سماها “الرقابة اليسارية” و”ثقافة الصواب السياسي”. صار السياسيون المحافظون يكرّرون أن “المرء لم يعد قادراً على قول ما يفكّر به”، واستخدموا هذا الخطاب لتصوير خصومهم من المثقفين واليساريين أوصياء على الفكر العام. ومع الوقت، أصبحت حرّية التعبير غطاءً للخطابات العنصرية والمعادية للمهاجرين والنساء والمثليين، بذريعة أن “الآراء يجب ألّا تُمنع مهما كانت صادمة”.

في موازاة ذلك، ولدت في التسعينيات أسطورة الإنترنت فضاءً تحرّرياً لا يخضع لسلطة الدول ولا لهيمنة رأس المال. روّج هذا التصوّر ناشطون من “الهاكرز” والمبرمجين المؤمنين بأن الشبكة ستحرّر الخطاب العام من احتكار المؤسسات الكبرى وستمنح كل إنسان الحق في أن يُسمِع صوته. غير أن هذه اليوتوبيا الرقمية لم تصمد طويلاً. فمع صعود المنصّات التجارية الكبرى، تحوّل الإنترنت إلى فضاء مملوك لعدد محدود من الشركات، تُعيد تنظيم النقاش العام وفقاً لخوارزميات مصمّمة لجذب الانتباه وزيادة الأرباح. وما كان يُفترض أن يكون مساحة مفتوحة للنقاش، صار سوقاً للمعلومات والانفعالات، تتحكّم فيه الشركات نفسها التي ترفع اليوم شعار الدفاع عن حرّية التعبير.

كانت الأحداث التي تلت اقتحام أنصار ترامب مبنى الكابيتول عام 2021 لحظة مفصلية في هذا التحوّل. عندما حظرت “تويتر” و”فيسبوك” حساب الرئيس المنتهية ولايته، انفجر غضب اليمين الذي اتهم المنصّات بممارسة رقابة سياسية لصالح الديمقراطيين. وسرعان ما تبنّت ولايتا فلوريدا وتكساس قوانين تُلزم المنصّات بنشر أي محتوى ذي طابع سياسي، بحجّة حماية حرّية التعبير، بينما كانت الغاية الحقيقية الانتقام من الشركات التي تجرّأت على إسكات ترامب. بعد عام، اشترى ماسك “تويتر”، وجعل من “تحرير المنصّة من الرقابة” شعاراً شخصياً، مقدّماً نفسه منقذاً للنقاش العام من هيمنة الليبراليين. لكن ما فعله عملياً إعادة تشكيل الفضاء وفق رؤيته الخاصة، أي وفق تحالف جديد بين اليمين الشعبوي وبعض رجال الأعمال الليبراليين في وادي السيليكون.

في هذه المرحلة، أصبح الدفاع عن حرّية التعبير شعاراً مشتركاً بين اليمين الشعبوي والمليارديرات التكنولوجيين، وإن اختلفت دوافعهم. فبالنسبة لتيار ماسك، الحرية غياب أي سلطة تحدّ من التدفق الحر للمحتوى، عنصرياً كان أو مضللاً. أما بالنسبة لشركات مثل غوغل وميتا، فهي حقّ المؤسّسة في التحكم بالمحتوى وفق خوارزمياتها الخاصة، بحجّة أن ذلك جزء من “حرّية التعبير المؤسّسية” التي يحميها التعديل الأول للدستور الأميركي. في الحالتين، يتحوّل المفهوم من قيمة ديمقراطية إلى أداة هيمنة اقتصادية أو أيديولوجية.

لقد أتاحت القوة القانونية للتعديل الأول للشركات التكنولوجية أن تتهرّب من أي رقابة تقريباً، فمنذ التسعينيات، اعتبرت المحاكم الأميركية “الكود البرمجي” نفسه من أشكال التعبير المحمي، ما مهد الطريق أمام الشركات لتوسيع هذا المبدأ بحيث يشمل خوارزميّاتها وعمليات ترتيب المحتوى والتوصية به. وقد كسبت “غوغل” في عام 2003، مثلاً، قضية قضائية أكدت حقها في ترتيب نتائج البحث كما تشاء، معتبرة ذلك ضمن حرّيتها في التعبير. وامتدّ هذا المنطق لاحقاً إلى جميع المنصّات الكبرى، حتى أصبح من الصعب على السلطات الأميركية فرض أي معايير إلزامية للحياد أو الشفافية. وقد أكّدت المحكمة العليا نفسها، في قرار حديث، أن اختيار المنصّات ما تنشره أو تخفيه اجراء يستحقّ الحماية الدستورية، ما يعني أن أي تدخل حكومي في طريقة تنظيم الخطاب العام بات شبه مستحيل.

المفارقة أن هذه الحرّية المطلقة لا تخدم، في النهاية، لا الديمقراطية ولا المواطنين، بل تُكرّس احتكار حفنة من الشركات الخاصة للفضاء العام. فبينما يتحدّث ماسك وأنصاره عن “حرّية التعبير للجميع”، تُحوِّل سياساتهم المنصّات إلى بيئات عدائية يهيمن عليها خطاب الكراهية والتضليل والتنمّر، ما يدفع الفئات الضعيفة إلى الصمت والانزواء. أما الشركات الكبرى التي ترفع شعار الدفاع عن الحرية المؤسّسية، فهي تبرّر عبره سلطتها المطلقة على النقاش العام وعلى تدفق المعلومات، مع أن قراراتها تخضع، قبل كل شيء، لمنطق السوق ولحسابات الإعلانات والعائدات.

بذلك، تتواجه اليوم رؤيتان ظاهرياً متناقضتان، لكنهما تؤديان إلى النتيجة نفسها. الرؤية النيوليبرالية التي تدعو إلى حرية غير محدودة تنتهي إلى فوضى معلوماتية، وإلى إعادة إنتاج علاقات القوة القديمة، لأن من يملك المال والتقنيات والخطاب الأكثر عنفاً هو من يحتل الساحة. أما الرؤية الرأسمالية للشركات العملاقة فتعيد إنتاج الهيمنة عبر التحكّم الدقيق بالمحتوى وتوجيه النقاش بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية. في الحالتين، يتآكل المعنى الأصلي لحرية التعبير بوصفها حقّاً جماعياً في النقاش والمشاركة، ويتحوّل إلى شعار يُستخدم لحماية الامتيازات.

ليست المشكلة فقط في غياب التنظيم، بل فيمن يملك حق تنظيم الخطاب العام، فإذا كانت الدولة خاضعة للرقابة الشعبية والانتخابية، فإن شركات التكنولوجيا لا تخضع لأي مساءلة، ومع ذلك تتحكّم اليوم فيما يراه ويسمعه مليارات البشر. يحوّل هذا الوضع الديمقراطية إلى مجرّد واجهة، فيما تُدار النقاشات العامة وفق منطق خوارزمي، غايته القصوى جذب الانتباه وتحقيق الأرباح. من هنا، لم يعد السؤال كيف نحمي حرّية التعبير من الدولة، بل كيف نحميها من الشركات التي تملك المنصّات التي نتكلم عبرها.

استعادة المعنى الحقيقي لحرّية التعبير تتطلب إعادة التفكير في بنية الفضاء الرقمي نفسه. لا يكفي المطالبة بمزيد من الحرية أو التنظيم، لأن كلا المصطلحين باتا رهينتين للمصالح المتضاربة بين السياسيين والمليارديرات. ما يحتاجه العالم فضاءات رقمية عمومية، لا تجارية، تُدار بشفافية وتخضع لمساءلة المجتمع، لا لمزاج أصحاب الثروة أو أجندات الدول، فالديمقراطية لا يمكن أن تقوم على خوارزميات، ولا على أوهام السوق الحرّة، بل على حق الناس في النقاش الحر والمتكافئ، وهو الحق الذي تفرغه اليوم كل من السلطة السياسية ورأس المال الرقمي من مضمونه.

في النهاية، تبدو حرّية التعبير كما تطرحها التكنولوجيا المعاصرة أشبه بواجهة أنيقة تخفي وراءها مشروعاً متكاملاً للهيمنة. إنها ليست وعداً بالتحرّر، بل وسيلة لضمان استمرار السيطرة على الوعي العام، باسم الحرّية ذاتها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى