مقالات

كيف أعدت روسيا والصين لـ “نظام عالمي جديد”؟

إنجي مجدي

خلال العامين الماضيين خيمت تداعيات انتشار فيروس كورونا على العالم، وما صاحبها من فوضى تتعلق بإمدادات المواد الطبية وعرقلة سلاسل التوريد التي أثبتت الجائحة اعتمادها بشكل أساس على الصناعات الصينية، وثارت الشكوك في النموذج الاقتصادي الدولي الحالي.

وفيما لم يكد العالم يتخلص من المرض ويحاول استعادة توازنه، جاء المشهد الدرامي للانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان صيف العام الماضي ليفتح الباب واسعاً أمام التكهنات الخاصة بتراجع القيادة الأميركية على الساحة العالمية، في وقت يتحدث فيه كثيرون عن أفول العالم أحادي القطب الذي تتزعمه واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي.

ومن شرق أوروبا مجدداً، سرعان ما طرأت أزمة معقدة على المشهد الدولي زادت التوقعات في شأن نظام عالمي جديد يفرض نفسه بقوة، مدفوعاً برفض قوى صاعدة مثل الصين، أو قوى تسعى إلى استعادة أمجاد الماضي مثل روسيا، فالسؤال الملح حول مستقبل النظام العالمي أصبح مهماً، ليس فقط بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي يمثل أخطر أزمة عسكرية في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، وعدّه مراقبون بمثابة 11 سبتمبر لأوروبا، بل أيضاً لأن الحرب تأتي بعد انسحاب فوضوي للقوات الأميركية من أفغانستان وعودة حركة طالبان المتطرفة للسيطرة على الحكم، وهي انتكاسة على غرار الانسحاب الأميركي من فيتنام عام 1973.

أعدت الصين وروسيا مسبقاً لذلك الفصل الجديد من النظام الدولي، ففي الرابع من فبراير (شباط) الماضي وعقب لقاء القمة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره شين جينبينغ، صدر بيان ختامي مشترك تحدث صراحة عن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة، وأعرب الرئيسان عن قلقهما حيال تحالف “أوكوس” الذي يجمع الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كونه يزيد من خطر سباق التسلح في المنطقة، ويخلق أخطار انتشار الأسلحة النووية.

ووفقاً لأستاذ الحرب والدراسات الاستراتيجية في كلية كينجز بلندن أليسيو باتالانو، أظهر البيان سعى الدولتين إلى التعددية القطبية والتعاون الإقليمي والاعتماد الاقتصادي المتبادل، مع لعب الأمم المتحدة ومجلس الأمن دوراً مركزياً وتنسيقياً.

البيان المشترك في الرابع من فبراير جاء قبل 20 يوماً من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، وسجل شراكة وصداقة وثيقة بين بوتين وشي، وامتنعت بكين عن التصويت لمصلحة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد العملية العسكرية الروسية، وتجنبت تصنيفها “غزواً”.

وفي السابع من مارس، أكد وزير الخارجية وانغ يي مرة أخرى التزام الصين بـ “صداقتها الدائمة والتعاون متبادل المنفعة” مع روسيا، الذي يقوم على “منطق واضح للتاريخ”، وهذا الموقف الذي تعتبره وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة وعضو مجلس مديري المجلس الأطلسي بواشنطن آنا بلاسيو، نابعاً من دفاع بكين عن “مخاوف الكرملين الأمنية المنطقية”.

وبالعودة لعام 2008 عندما سحقت روسيا جيش جورجيا، فإن المراقبين الدوليين تحدثوا وقتها عن أن النصر العسكري الروسي والاعتراف الرسمي بمنطقتين انفصاليتين، أوستيا وأبخازيا، ونشر الآلاف من قوات موسكو الباقية هناك حتى يومنا هذا، فرمل الاندفاعية الأميركية في المثلث الاستراتيجي (القوقاز، قزوين، آسيا الوسطى)، وربما في أوروبا الشرقية لسنوات طويلة، وهي الاستراتيجية التي تابعها الرئيس بوتين باجتياح القرم عام 2014، ثم كامل أوكرانيا حالياً.

هذه التحركات السابقة كانت استراتيجية مخططة للتمرد على النظام أحادي القطب، واتضح ذلك صراحة في تصريحات كبار مسؤولي الكرملين، فقبل نحو خمس سنوات لم يتردد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الدعوة علانية إلى نظام عالمي جديد “لا تهيمن عليه الدول الغربية”، وذلك خلال منتدى الأمن في ميونيخ بألمانيا عام 2017، بحضور كبار المسؤولين الغربيين، بما في ذلك مايك بنس نائب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب آنذاك.

ودعا لافروف خلال المؤتمر إلى إقامة علاقة “براغماتية” مع الولايات المتحدة، وقال إنه “على قادة العالم أن يحددوا خيارهم، وآمل بأن يكون هذا الخيار هو نظام عالمي ديمقراطي وعادل، وإذا أردتم أطلقوا عليه نظام ما بعد الغرب.

وبالنظر إلى تلك التصريحات السابقة فلم يكن تصريح لافروف الأسبوع الماضي في شأن نظام عالمي جديد مفاجئاً، فقد اتهم وزير الخارجية الروسي الولايات المتحدة بالسعي إلى الهيمنة على الصعيد الدولي، كما اتهم العالم الغربي بالجنوح نحو استبدال القانون الدولي بنظام مبني على قواعد يجرى إعدادها من قبل مجموعة ضيقة من الدول. وقال، بحسب ما جاء في موقع روسيا اليوم، “إن هدف الغرب يكمن في ردع روسيا وأي دولة أخرى تمارس السياسات الخارجية المستقلة، وأن حلف الـ (ناتو) اختار أوكرانيا كآلية لقمع استقلالية روسيا”.

…الصين محدد للنظام

وبحسب مراقبين في أوروبا والولايات المتحدة، فإنه على الرغم من أن بوتين هو من أثار هذا التحول في النظام العالمي، فإن الصين هي التي ستحدده، بحيث يرتبط باستراتيجيات الرئيس الصيني، وتحديداً في ما يتعلق بثلاثة أمور، وهي سياساته الخارجية ورؤيته لنظام دولي بديل والمخططات الاقتصادية والسياسية الكبرى لجينبينغ. ويقول باتالانو إنه مع تزايد اعتماد موسكو الاقتصادي على بكين، مثلما ظهر في بيان فبراير الماضي، فإن بكين سيكون لها الصوت الحاسم في المشهد الدولي الجديد.

وإلى جانب البيان المشترك، كشف بوتين عن صفقة جديدة للنفط والغاز تقدر قيمتها بنحو 115.5 مليار دولار ستمكن روسيا، وهي ثالث أكبر مورد للغاز للصين، من الاستمرار في زيادة الصادرات إلى بكين خلال ربع القرن المقبل، وعلاوة على ذلك مددت شركة النفط الروسية العملاقة “روسنفت” وشركة البترول الوطنية الصينية “سي إن بي سي”، صفقة قائمة لتوريد 100 مليون طن من النفط على مدى السنوات الـ 10 المقبلة.

وبعد بضعة أسابيع من دخول الدبابات إلى أوكرانيا، رفعت بكين القيود المفروضة على واردات القمح من روسيا، ومع إضعاف العقوبات الاقتصادية الغربية للاقتصاد الروسي أعلنت البنوك الروسية أنها ستصدر من الآن فصاعداً بطاقات باستخدام نظام مشغل بطاقة “يونيون باي” الصيني. ويقول الأستاذ بكلية “كينجز” إن هذا التغيير مهم بالنظر إلى أن خطط الرئيس الصيني لأمته دخلت مرحلة تنافسية جديدة وأكثر حدة.

وقررت بكين زيادة الإنفاق الدفاعي مخصصة 7.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لإنشاء جيش على مستوى عالمي بحلول العام 2035، وهناك توجه صارم للتنمية الاقتصادية والتكنولوجية والتركيز الشديد على الترويج لبديل للدولار كعملة دولية.

وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قبل أسبوع أن بكين تجري محادثات مع السعودية لشراء النفط بالـ “يوان” بدلاً من الدولار. وعلى الرغم من نفي مصادر سعودية للخبر، لكن بشكل عام تمثل الحرب في أوكرانيا فرصة لتقليل اعتماد بكين على الدولار الأميركي.

ويقول مراقبون إن علاقة شي مع موسكو ستثبت أنها مفيدة لالتزامه السياسي الأوسع ببناء دولة كاملة ومتجددة وقوية على الساحة الدولية بحلول عام 2049 الذي يمثل الذكرى الـ 100 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.

وفي هذا السياق، يقول باتالانو إنه في ظل هذا “الصعود الاستبدادي” من المرجح أن تتفاقم المنافسة مع الولايات المتحدة، ومن ثم بإمكان روسيا، الأضعف التي تعمل في ظل بكين، أن تلعب دوراً كبيراً في إضعاف النظام الدولي الحالي، وتسهيل ترسيخ البديل الصيني.

وستكون العلاقة الناشئة من رماد الحرب في أوروبا فرصة لتحدي النظام الذي تمثله الولايات المتحدة في آسيا.

ويقول مراقبون إن هناك أدلة كثيرة تشير إلى أن الصين كانت على علم بنيات روسيا في ما يتعلق بأوكرانيا، ليس أقلها عدم بدء بوتين العمليات العسكرية إلا بعد انتهاء دورة الألعاب الشتوية التي استضافتها بكين، وبالنسبة إلى الرئيس الصيني، فيمكنه استخدام الحرب لزرع البذور التي ستحفز نمو روسيا كشريك استراتيجي طويل الأجل يمكن أن يساعده في تحقيق طموحاته الجيو-ستراتيجية في أعقاب الحرب.

..نظام جديد وتحدي للعولمة

هذه الشراكة الروسية – الصينية ربما هي من تقف وراء تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أثار جدلاً واسعاً داخل الولايات المتحدة في شأن “نظام عالمي جديد” سيحل في أعقاب حرب أوكرانيا. وقال بايدن خلال الاجتماع الفصلي للرؤساء التنفيذيين الذي تعقده الطاولة المستديرة للأعمال، وضم قادة “جنرال موتورز” و”أبل” و”أمازون”، “الآن هو وقت تتحول فيه الأمور، ونحن نتجه إلى ذلك، وسيكون هناك نظام عالمي جديد علينا أن نتولى قيادته، وخلال ذلك علينا أن نوحد بقية العالم الحر”.

عبارة بايدن أثارت نظريات المؤامرة التي تزعم أن جماعة سرية من أنصار العولمة تعمل في الظل، وتخطط لتشكيل العالم وفرض حكم شمولي. وخلط أنصار هذه النظرية بين كلمات الرئيس الأميركي والنظريات المتعلقة بلقاح فيروس كورونا، لكن حديث بايدن كان يشير إلى تحول المشهد الدولي على صعيد العلاقات الجيو-سياسية بل والعولمة، خصوصاً أنه كان موجهاً إلى تلك الشركات التي تمثل أحد أذرع القوة الأميركية حول العالم.

وبشكل أوسع يرى مراقبون أن جائحة كورونا ومن بعدها حرب أوكرانيا، تهدد “العولمة” والنظام الدولي الحالي القائم على اعتماد البلدان وانفتاحها على بعضها، فمثلما فعل الوباء من عرقلة سلاسل التوريد فإن الحرب في أوكرانيا أثارت مخاوف في شأن مزيد من الاضطرابات، إذ يتعرض كل شيء من إمدادات الطاقة إلى قطع غيار السيارات وصادرات القمح والمواد الخام للتهديد.

وفي تعليقات سابقة للوكالة الفرنسية، قال رئيس شركة “بلاك روك” المالية العملاقة لاري فينك، “لقد وضع الاجتياح الروسي لأوكرانيا حداً للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية”.

وأصبح نقص الأقنعة الجراحية مع بداية الوباء عام 2020 رمزاً لاعتماد العالم على المصانع الصينية في جميع أنواع البضائع، وأثار الصراع بين روسيا وأوكرانيا مخاوف حول نقص الغذاء في جميع أنحاء العالم، إذ يعد البلدان من بين أهم سلال الخبز عالمياً، وهذه التوترات التجارية دفعت الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، إلى السعي وراء “الاستقلال الاستراتيجي” في القطاعات الحيوية.

وقال الأستاذ في معهد “غينت” للدراسات الدولية والأوروبية فيردي دي فيل، “لم يحدث الوباء تغييرات جذرية في ما يتعلق بإعادة التوطين (إعادة الأعمال من الخارج إلى الإنتاج بالداخل)”. مضيفاً، “لكن هذه المرة قد يكون الأمر مختلفاً، لأن الصراع سيكون له تأثير في كيفية تفكير الشركات في قراراتها الاستثمارية، وسلاسل التوريد الخاصة بها”.

 

أندبندنت عربية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى