مقالات

منظمة الصحة العالمية أمام تحدياتها

بيير لوي ريمون

دائما سأتذكر أول درس لي سنة 1998 مع طلاب الأقسام التحضيرية الفرنسية للمدارس العليا، كنت صغير السن آنذاك، كنت صغيرا جدا. وكان واضحا أن الطلاب دخلوا العالم الجديد في ما كنت ما أزال عالقا بالعالم القديم. لا أدل على ذلك حينها من عجزي في الحصة عن ترجمة كلمة globalization التي أشار إليها طالب، فسارع طالب آخر إلى نجدتنا بإعطاء الجواب الصحيح.

كان هؤلاء الشباب قد دخلوا عصر العولمة منذ زمن، وإن يكن زمن العولمة آنذاك في أوئل إرهاصاته بالمعنى الملموس (وإن دخل المصطلح حيز الاستعمال منذ وقت أقدم). لا أعتقد أن هذا السيناريو سيتكرر في عالم اليوم بمعطياته الجديدة، معطيات عالم جديد داخل العالم الجديد. أجل… تعززت ثوابت العولمة الاقتصادية «التقليدية» بجديدة صحية، وإن كان الجانب الجديد هنا نسبيا، باعتبار أن الوضع الوبائي ليس وليد كورونا الأخير وإلا لما سمي بكورونا «المستجد».

أوشكت على كتابة أننا نتحرك الآن وفق معطيات جديدة، لكن حديثنا اليوم عن منظمة تكذّب ذلك بلغة المنطق والخبرة، يدعوني فورا إلى الاستدراك. منظمة الصحة العالمية منظمة عريقة، توقعاتها وتوصياتها مسموعة… ولئن كنت قد قررت تخصيص هذه المقالة لهذه المؤسسة، والحديث عن تجديد ولاية مديرها وتحدياته المستقبلية، يبقى الهدف أيضا لرد الاعتبار لهيئة لا تواجه الانتقادات بالضرورة، ولكنها تكاد تكون نسيا منسيا من الخطاب الإعلامي، كما شهد على ذلك الواقع الفرنسي، الذي راجع سيلا من الخبراء متفاوتي التمكن من مجالهم المزعوم، فيما كان بالإمكان إرساء النقاشات ضمن المزيد من المراجع المقبلة مباشرة من توصيات المنظمة.1948 تاريخ تأسيس المنظمة، بعيد تأسيس منظمة الأمم المتحدة التي تتبع مجلسها الاقتصادي والاجتماعي، وكونها منخرطة ضمن الخطة الأممية، يجعلنا لا نستغرب من تجاوز أهدافها السلامة من المرض لتشمل، كما تحدده مقاصدها، «ضمان رفاه جسدي وعقلي واجتماعي كامل».

لأن منظمة الصحة العالمية، عالمية، فإن أهدافها عالمية، وإذا كان من محدداتها «رفع المستوى الصحي للساكنة عالميا، وليس مجرد مستوى أعضائها» فهذا يعني أن التحديات جسام.

وإذا كنا لا نستغرب كون أهداف المنظمة سامية لأنها كونية، نستغرب في المقابل كيف لا يخصص لها إعلامنا حيزا أوفر من اهتماماته. فإعلان المنظمة حالة الاستعجال العالمي جراء ظهور جائحة كورونا المستجد، نتاج سلسلة من خطوات المراقبة الاستراتيجية تطبقها المنظمة منذ الستينيات على الأمراض المعدية والأوبئة المتفشية، فلديها سجل طويل من البرامج الوقائية يشمل الملاريا والسل والكوليرا والطاعون والحمى الصفراء والتيفوس.

وبعد فترة من النزال الاقتصادي، اتهم فيه البنك الدولي منظمة الصحة العالمية ببناء حساباتها على النفعية الفورية، سجلت حقبة الألفين، وهو الأهم بالنظر إلى زاوية تحليلنا، ما اصطلح المراقبون في مجال الصحة على تسميته بولادة ثانية للمنظمة.

ومنذ فترة الألفين تلك، بلورت المنظمة استراتيجيتها التطويرية على أساس الشبكة العالمية للإنذار بالأمراض المتفشية والاستجابة لها، Global Outbreak Alert and Response Network، المعروفة اختصارا بـ(GOAN) فتعززت مكانتها كهيئة لقياس وتوقع مدى انتشار الجوائح والأوبئة عندما ظهرت بصورة شبه متزامنة إنفلونزا الطيور ومعها إيبولا وأيضا طبعا، أسرة سلالة فيروسات كورونا المستجد (SARS)إلى هذه الحقبة أيضا تعود مواجهة اعتقدناها جديدة بين المنظمة وجمهورية الصين الشعبية بخصوص الإحصاءات المتعلقة ببوادر تفشي الوباء.

لا يمكن أن يمر الحديث عن منظمة الصحة العالمية مرور الكرام، ولا حضورها في النقاش العام. والمسألة تطرح إشكالية أوسع، إشكالية دور المنظمات العالمية والأممية بالتحديد في إرساء ضوابط تقوم عليها الاستراتيجيات السليمة.

وحينما نتحدث عن استراتيجيات سليمة، نتحدث عن مستويات متكاملة: مستوى الجرد والإحصاء والتوقع، مستوى الوقاية والاستجابة والمعالجة، مستوى الوعي والمسؤولية وتطابق السلوك. المسارات متكاملة: تدبر، استعداد، مواطنة، لكن المسار طويل أيضاً، فقد دخلنا فترة تعايش مع الأوبئة لم يسبق لها مثيل في عصرنا، ولن نبالغ إن قلنا إن الوباء صنع عصرا داخل العصر، وهذا ما يبرر ضرورة الاعتماد على المنظمات والهيئات العالمية التي لا تنافس الخبراء، بل تساعدهم.

القدس العربي

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى