مقالات

دور التراث في صناعة الحضارة

علاء الدين آل راشي

يخضع التراث لطرفين متناقضين ظاهريا؛ لكنهما يجتمعان على غاية واحدة تتجلى في تغريب واغتراب وهجرة الواقع والارتماء خارج الزمان والمكان.
الطرف الأول يرى بوجوب شطب التراث، وطرف يرى أن التراث سوار يحيط بالعقل فيحبسه ويعزله، وينادي هذا بهضم ما عند الآخرين، فهو ينقلك من واقعك ومشاكله وخصوصيته وتراثه إلى تراث مغاير وواقع آخر مختلف في تكوينه تماما، كما يصر الطرف الثاني على حمل الواقع المرئي على المسطور المغيب في التراث، فيتجاوز الراهن وإشكالياته ليرميك في غربة واغتراب عن الواقع.
وفي مقالنا هذا نستعرض وجهة نظر تنويرية حقيقية لرجل أكاديمي ينطلق من فكرة الانتقال من الاستنساخ الدقيق إلى الاستنتاج العميق، ولا يحنط التراث، ولا يقدسه، ولا يركله، فكنه التراث كما يراه غليون «ذاكرة تاريخية إشارة إلى امتدادنا، أو بالأحرى عمقنا التاريخي على مستوى الرموز والمعاني، تماما كما تمثل جذور الشجرة عمقها الحيوي، الذي من دونه تطيح بها أي عاصفة، ولا يبقى منها أثر».
وينطلق غليون من الوعي بمكونات الهوية، فهي «ليست عنصرا واحدا وجوهرا خالصا؛ لكن يمكن تشبيهها بالخزانة، التي تضع فيها الشعوب أغراضها وأرصدتها وثقافاتها الجزئية، وتستعيدها، أو تنهل منها، وتعيد ترتيبها واستخدامها حسب الحاجة»، ويعمق غليون فكرة الغنى الحقيقي للشخصية القومية من خلال «غنى الخزانة التاريخية الثقافية والحضارية يعكس غنى الشخصية القومية، وعمق انزراعها في التاريخ، واتساع عتبة إدراكها وهامش مبادرتها الثقافية»، ويرى غليون أن التراث يسري في فكرنا وليس حيزا منفصلا، حيث لا يمكن النظر إلى التراث على أنه واقع منفصل عنا، وإنما عناصر متشربة في وعينا وثقافتنا وفكرنا الجماعي القائم؛ لكنها قابلة للتجاوز أيضا في كل حقبة. ويتدارك غليون الفشل في ترتيب عناصر هذا الوعي الاجتماعي، فينوه إلى أننا «إذا شعرنا أن هناك قطيعة بيننا وبين التراث، فلأننا لم ننجح في ترتيب عناصر هذا الوعي الاجتماعي التاريخي ذاته.
فلا ينبع ذلك من نقص التراث أو ضعفه أو سوئه، وإنما من فشل وعينا الراهن في أن يوحد عناصر هذا التراث/ الثقافة الممتدة عبر التاريخ، وخلطه المستمر بين أولوياتنا وأهدافنا، التي لا يملك غيره مفاتيح تأويل الماضي والحاضر على ضوئها»، ويجيب برهان عن العيش في التراث أو التخلي عنه، فينفي إمكانية ذلك «أننا لا يمكن أن نعيش في التراث بدون أن نحكم على أنفسنا بالموت في الحاضر، كما أننا لا يمكن أن نتخلى عن التراث من دون أن نشوه ذاتنا»، ويقرر غليون أن القطيعة قيد والشواهد حاضرة، وإذا قطعنا أنفسنا عنه اعتقادا بأننا نتحرر بذلك منه، فهو لن يقطع نفسه عنا، ولن يحررنا، وإنما سوف يظل يلاحقنا.
ثم دلل على صحة رأيه ببعض الشواهد التاريخية منها ما قام به كمال أتاتورك، ومحمد علي باشا والنظم الشيوعية؛ لكن النتيجة على حد رأي غليون «كانت أزمة هوية دفينة وأزمة ثقافية وأخلاقية شاملة ما لبثت أن عبرت عن نفسها بصورة انتقامية، فعادت الأمة الروسية إلى الكنيسة الأرثوذكسية، وتركيا إلى الأردوغانية ومصر والأقطار العربية، التي شهدت تفتح أفكار النهضة في القرن الـ19، إلى موجة الحركات الإسلامية».
ويرتبط التعامل مع التراث بالنقاط الآتية:
التراث جزء حي فينا إما أن نستوعبه في صيغة وعينا الجديد، ونتجاوزه بوعي، أو أن يستوعبنا ويخنقنا.
الاعتقاد بأن هناك مخرجا بالقطع مع التراث يساوي الاعتقاد بأن قطع جذور الشجرة يغير من نوع الثمار، التي تنتجها، أو يترك المجال لظهور شجرة أفضل منها، بدل تطعيمها وتلقيحها.
بعكس ما يوحي به منطق التفكير الآلي أو الميكانيكي نحن لا نستعيد الماضي لما كان يمثله، وإنما نعيد اختراعه وإنتاجه في واقعنا لتلبية حاجات جديدة ومختلفة، ونشحنه بمعان ودلالات تعبر عن ظرفنا التاريخي وغاياتنا.
ولا يصبح هذا الماضي عثرة أمام فهمنا لواقعنا إلا عندما نستخدمه:
بديلا للتفكير الحي في هذا الواقع.
لغة جاهزة لمواجهة الصعوبات، التي تعترضنا، ويفشل وعينا وثقافتنا في فك رموزها ومواجهتها بوسائل عقلانية.
في هذه الحالة لن يصبح التراث أو عناصره المنفلتة من أي وعي جامع وحيٍّ عثرة أمام تفاعلنا مع الواقع الراهن فحسب، وإنما أكثر من ذلك حيث يتحول التراث نفسه في وعينا وأسلوب تعاملنا معه إلى صنم مقدس وموضع عبادة، بمقدار ما يزداد عجزنا عن إنتاج الوعي الجديد والحي بتحديات الوجود الراهن.
1- وما من شك في أن إنتاج هذا الوعي المطابق للواقع والمتفاعل معه لا يتوقف على نوعية التراث، وإنما هو منفصل عنه. فهو الذي يعيد وضع التراث في مكانه، ويتحكم به بدل أن يصبح عبدا له، وهذا يعني أن تخلفنا الثقافي ليس ثمرة ميكانيكية لتخلف التراث، الذي هو ثقافة الأجداد وسجل أفعالهم، وإنما لتخلف ثقافتنا الراهنة، التي تنتج الوعي الجماعي المتأخر والمتناقض والمشوش والعاجز والباحث عن ضمانة أو وصاية يستند إليها من الماضي أو الخارج العالمي والغربي اليوم.
2- وبفضل هذا الترتيب والتوضيب، الذي ذكرت لعناصر الثقافة/الثقافات، التي تمر على الشعوب، أمكن لأمة تكونت من مهاجرين من شتى الأصقاع، وشهدت تاريخا دمويا وعنصريا قاسيا، وكذلك تقدما سياسيا استثنائيا، وأقصد الأمة الأمريكية أن تستوعب ثقافة الإبادة الجماعية منقطعة النظير، التي شكلت التراث القومي لها في مرحلة ولادتها، وتتجاوزها نحو ثقافة جديدة متأثرة بالفكر التنويري والإنساني، الذي انتشر في أوروبا منذ النهضة، وما انطوى عليه من القيم الإنسانية الحديثة. ولم يمنع حرق قرى الهنود الأمريكيين من السكان الأصليين باسم الصليب والمسيح من أن تتحول هذه الأمة القاتلة إلى أول ديمقراطية في العالم، وتلهم شعوب الأرض فيما بعد قيم الحرية الفردية وحكم القانون والمؤسسات، حتى لو أن هذه الثقافة الوحشية ما تزال تشكل في مكان ما عنصرا قويا في وعي هذه الأمة وشخصيتها وهويتها الكلية. وينطبق هذا على أوروبا راعية الحروب الصليبية لما يقارب 4 قرون أيضا.
الغريب أن السلطات الأكثر قمعية وإفقارا لشعوبها ترفع رايات التجديد، وكل تجديدها محو وإثبات حسب ما يكرس حالات الضياع المجتمعي وبناء نظريات مهزوزة؛ حيث تكثر الدعوات التجديدية التي تريد في كثير من مسالكها بناء شخصية مسلوبة من أي قيمة شخصية لا تجيد فهم ذاتها، ولا التعاطي مع الراهن. فهل تراثنا الذي هو ديوان للعقل بكل مكوناته وألوانه هو سبب البلاء والتخلف الذي نحن فيه؟ يذهب غليون إلى أن جذر التخلف مرده إلى ضعف الاستثمار الرسمي في الثقافة المدنية أو ضعف التمدن؛ حيث يقول غليون «يكفي أن نمعن النظر في حجم استثمارات دولنا في الثقافة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وفي جميع فروعها ومقارنتها بسلوك الدول الأخرى، الأوروبية مثلا منذ 5 قرون أو أكثر، وتمويلها لثورة حقيقية في الفلسفة والعلوم والآداب والفنون. وإن أكثر ما يلفت النظر في مجتمعاتنا العربية اليوم هو ضعف الاستثمار إلى حد العدم في الثقافة، وفي البحث العلمي، وفي تشجيع الإنتاج الثقافي والفني».
وعلى النقيض تماما من السرديات المملة، التي تعزو ما نحن فيه من تخلف وتقهقر إلى التراث، يعزو غليون سبب «غياب المدنية أو ضعف التمدن» إلى الرأس السياسي، و»الصناعة التاريخية التي تقوم بها النظم والنخب الممسكة بالسلطة والثروة، وهي صناعة مستمرة يوما بيوم».
ثم يضع غليون الحقائق الآتية:
أقل أمة تقرأ وتنشر وتناقش وتناظر وتبدع وتفكر. هنا تكمن العلة الحقيقية لتأخرنا الأيديولوجي والثقافي والفني والسياسي، واعتمادنا العقلي والفكري والعاطفي على التراث، وتحنيط هذا التراث أيضا.
ما يطبع من كتب التراث اليوم يفوق أضعاف ما يطبع في مطابعنا من كتب البحث والتفكير والتأمل في الحياة الحاضرة وشؤون عصرنا وحضارتنا.
لسنا متخلفين اليوم لأن أجدادنا كانوا بدائيين.
لسنا متخلفين اليوم لأن أجدادنا لم يتركوا لنا تراثا عقليا أو فنيا أو دينيا مهما
بل ربما كان العكس هو الصحيح.
ثم يخلص غليون إلى أن التخلف الذي ما زلنا فيه إنما هو «صناعة النخب السائدة للمجتمع الهمجي الذي نحن أبناؤه اليوم»، بسبب:
احتقارها للثقافة. إطاحتها بالعقل والفكر.
رهانها على منطق القوة والإخضاع والترويع والتطويع للفرد.
هذه الصناعة/السياسة هي التي جعلت الماضي منارتنا الأعلى ورصيدنا الثقافي شبه الوحيد، الذي يعتد به حتى الآن.
الجزيرة نت

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى