كتب

في رثاء الرجولة الأميركية

هجوم كبير على كتاب جوش هولي السيناتور الجمهوري الممثل لولاية ميزوري

قبل يوم من صدور كتاب “الرجولة” لمؤلفه جوش هولي، كتبت أورسولا بيرانو في “ديلي بيست” بتاريخ 15 مايو (أيار) 2023، مقالاً عن مراجعات الكتاب السلبية.

نعم مراجعات سلبية لكتاب لم يصدر بعد، بل إن بعض هذه المراجعات نشر قبل صدور الكتاب بعام كامل، أي ربما قبل تأليفه أصلاً.

قد يتبدد هذا العجب، قليلاً، حين نعلم أن معنى كلمة “المراجعة” (review) لم يعد قصراً على المقال الذي يكتبه كاتب مؤهل معرفياً لعرض الكتاب، أو مناقشة أفكاره، ناهيكم عن تقييمه والتوصية به، لكنه بات يشمل التعليقات، وجيزها ومسهبها، مما يكتبه عامة القراء في شتى المواقع التي تسمح بهذا.

كتبت بيرانو أن “كتاب السيناتور جوش هولي الذي طال انتظاره لم يصدر بعد، لكن مراجعاته قائمة، يا له من قطعة شنيعة من الهراء، لم أستطع إكماله، لا تضيعوا عليه نقودكم”، هكذا كتب أحد المراجعين مقيماً الكتاب بنجمة واحدة.

وأضافت كتب آخر مقيماً بمثل هذا التقييم “سمعت أنهم سيطبعونه على زجاج لتحاكي هشاشته هشاشة ذكورته”، وكتب ثالث في تعليق موسوم بأنه مخفي لحرقه تفاصيل الكتاب، الذي لم يقرؤه المراجع أصلاً، فقال “يمتلئ الكتاب بكراهية النساء ويتناول الشذوذ الجنسي الكامن وكراهية الذات”.

فضلاً عن كونه السيناتور الجمهوري الممثل لولاية ميزوري الأميركية، فإن جوش هولي من أبرز الشخصيات السياسية، إذ كان عند انتخابه في 2018 أصغر سناتور في البلد، وهو أيضاً محام دستوري مرموق له معارك شهيرة خاضها مع شركات التكنولوجيا الكبرى، وسبق أن شغل منصب النائب العام في ولاية ميزوري، كما أنه من أكثر الكتاب الأميركيين مبيعاً بكتابه السابق “طغيان شركات التكنولوجيا الكبرى”.

..حفل على “شرف” الكتاب

هكذا إذن أقيم حفل على “شرف” هذا الكتاب، بدأ قبل عام من صدوره، حين أعلن هولي عن اعتزامه نشره، ثم احتدم الحفل في غضون أيام من النشر، فإذا بأغلب فقراته تحفيز ضد كاتبه نفسه، أو معارضة لتوجهه السياسي، المحافظ إن تحرينا رقة التعبير، والشعبوي إن تحرينا دقته.

ثم لم تكد أيام قلائل تنصرم على الصدور الفعلي للكتاب حتى سارعت الصحف إليه، تشارك في الحفل بفقراته الأساسية الدسمة بعد تمهيد طويل بمقبلات الهواة، فبدأت المراجعات، المطولة في بعض الأحيان، في الظهور، فلم يختلف كثير منها عن مراجعات القراء إلا في طولها، وانطلاق البعض منها من وجهة نظر نسوية صارخة.

تستهل بيك روثفيلد استعراضها للكتاب (واشنطن بوست ـ 18 مايو 2023) على النحو التالي: “عملياً، منذ أن بدأ وجود الرجال وهم في أزمة، فكل شيء في ما يبدو يهددهم بالزوال، رجوعاً بالزمن حتى ستينيات القرن السابع عشر حينما حذر الملك تشارلز الثاني الرجال الإنجليز من مشروب جديد اسمه القهوة من شأنه أن يدمر فحولتهم، وفي مطلع القرن العشرين حينما تخوف خصوم التعليم المختلط من حشايا الريش والرقص بل ومن القراءة لاحتمال أن تتسبب في العجز الجنسي للصبيان، وكان الرجال في خطر عند انعطاف القرن العشرين حينما نبه مؤسس الكشافة إلى أننا “بحاجة ماسة إلى بعض التدريب لغلماننا إن شئنا أن نحافظ على شيء من الرجولة في سلالتنا بدلاً من الانزلاق بأمتنا إلى الليونة والرخاوة واستحلاب السجائر”. ولم يتعاف الرجال حتى عام 1958 حينما قال المؤرخ آرثر شليسنجر الابن في مجلة اسكواير إن “خطباً جسيماً قد حاق بمفهوم الذكر الأميركي عن نفسه”.

وأكدت رسالة للصحافية سوزان فالودي أن الرجولة “تحت الحصار” في عام 1999. ولا عجب من وجود كل من يتباكون على ندرة المثل العليا من الرجال، فبعد قرون كثيرة من القهوة والقراءة وامتصاص السجائر، هل لا يزال من رجال أصلاً ليكون منهم مثل عليا؟”.

..سخرية تجاوزها الوعي البشري

هكذا إذن، يتحمل الرجال كلهم هذه السخرية، وهذا الرصد التاريخي لما لا ينبغي أن يعد إلا من قبيل النوادر أو الطرائف أو غرائب التاريخ التي تجاوزها الوعي البشري، بسبب مواقف أحدهم السياسية وقراره بأن يضيف “الرجولة” إلى جملة عناصر خطابه السياسي الخلافي.

كتبت أورسولا بيرانو أن هولي يحاول أن يبين في كتابه أن الرجولة عماد جوهري من أعمدة المجتمع الأميركي، ومن دونها -في ما يرى- يتداعى المجتمع، ويستند إلى كل من يمكن الاستناد إليهم بدءاً بآباء أميركا المؤسسين وحتى فلاسفة الإغريق والرومان ويسوع الناصري وثيودور روزفلت لبناء حجته حول ماهية الرجولة وأسباب الاحتياج إليها.

تقول روثفيلد إن “المفهوم متجذر في الخطاب المحافظ، فالحزب الجمهوري ثابت على زعمه بأن الرجال ما عادوا يسلكون مسلك الرجال، في ظل أن الحروب الثقافية الجارية حول الجندر والجنسية تتسرب إلى التربة السياسية، وهذا هو الطعم الذي يستدرج الحزب به قاعدته الانتخابية، وهذا أيضاً هو الوقود الذي يحرك مقت الماقتين لهولي”.

وليست قائمة الخائفين على الرجال عبر التاريخ هي القائمة الوحيدة التي توردها بيكا روثفيلد في استعراضها لكتاب الرجولة، فثمة قائمة أخرى لرجال تراهم صالحين للاقتداء بهم واتخاذهم مثلاً عليا “رجال في كل مجال ومنشط إنساني، مثل إليود كيبتشوغي الشخص الوحيد الذي أكمل الماراثون في أقل من ساعتين، وهو رجل، ودينغ ليرين بطل العالم في الشطرنج وهو رجل، لكن أمثال هذين ناجحون بقدرتهم في الرياضة والمنافسة، في حين أن المطلوب ليس شخصاً بارعاً يكون بالمصادفة ذكراً، وإنما المطلوب شخص بارع في كونه ذكراً، شخص لا شاغل له إلا الذكورة ذاتها، فالرجال لا يريدون قدوة في الجلد أو العبقرية، وإنما يريدون ما أطلقت عليه فالودي “كتاب قواعد جندريا، ويفضل أن يكون سهلاً عليهم”.

لكن من تكون سوزان فالودي هذه التي تستشهد بها بيكا روثفيلد استشهاد الكتاب بالإعلام؟ أول اقتراح يقدمه غوغل إجابة لهذا السؤال يأتي فيه اسم سوزان فالودي مشفوعاً بعنوان كتاب لها هو “الردة: الحرب غير المعلنة على نساء أميركا”. وإذن فقد أجيب السؤال، وزيادة على ذلك، علم السائل أنه أوقع نفسه في مناوشة بين الرجال والنساء لم يشهد لها مثيل منذ مناظرات الإذاعة المدرسية في المدرسة الإعدادية قبل آلاف السنين.

..أدعياء الثقافة

تكتب بيكا روثفيلد أن “كتاب القواعد هو بالضبط ما يسعى السيناتور جوش هولي إلى تقديمه في كتاب ’الرجولة: فضائل الذكورة التي تحتاج إليها أميركا’، وما هذا الكتاب إلا الأحدث في سلسلة طويلة من كتب الأدلة”، التي ألفها “أدعياء الثقافة” وتشترك جميعاً في أنها تتبنى موقفاً متناقضاً مفاده أن “الرجولة منيعة وفي خطر، في آن واحد، وطبيعية إلى درجة الوضوح وهشة إلى درجة تستوجب الدفاع، أيضاً في آن واحد”.

وتضيف “يمشي هولي على أطراف أصابع قدميه فوق ذلك الحبل المرتعش نفسه” بمعنى أنه يسلك الخط نفسه “في كتابه إذ يرى الرجولة في آن واحد هبة بيولوجية وإنجازاً شخصياً، وشأن كثير من أسلافه [من كتب هذا الخط] يضم كتاب (الرجولة) المراثي المعتادة للعمل البدني (الذي يضفي عليه طابعاً رومانسياً فيسميه عمل المرء بيديه) والاتكاءات المعيارية على خرافات من “الشرق الأدنى القديم” لتأكيد عالمية الرجولة، والاحتفاءات المألوفة بتيدي روزفلت والتأكيدات القسرية على أن “الرجال” مطالبون بأن يكونوا “محاربين” وإن في ميدان ثقافي هذه المرة”.

ولعل الفضول يدفع بعضكم -دفعه لي- إلى التساؤل عن تفسير لورود اسم الرئيس الأميركي تيودور -أو تيدي- روزفلت من دون بقية رؤساء أميركا مرتين حتى الآن في عروض كتاب هولي، ماذا بين روزفلت بالذات والرجولة؟

ومرة أخرى يجيب غوغل بإرشاده إلى موقع (encyclopedia.com) حيث مادة عن نظرة روزفلت إلى الرجولة يرد فيها أن “كثيراً من الأميركيين في مطلع القرن العشرين كانوا يخشون من تغير نمط الحياة بالابتعاد عن العمل اليدوي والتوسع الحدودي إلى الوظائف المهنية والحياة الحضرية متخوفين من أن يؤدي ذلك كله إلى إضعاف الرجولة لدى الجيل التالي من الرجال في أميركا.

وناقش روزفلت متطلبات الحياة الشاقة في خطبة بشيكاغو عام 1899 أثنى فيها على القوة الجسدية بوصفها طريقاً إلى نيل القوة الروحية، وذهب إلى أن النجاحات الشخصية يمكن تحقيقها ببعض القوة الطبيعة أو بهبة فطرية للفرد، وقال إن هذه الفئة من الإنجازات هي ابنة مهارة أو فضيلة لا يمكن لأي قدر من التدريب أو التعليم أو الإرادة أن تخلقها في رجل عادي”.

…مأساة لا قوة

تكتب بيكا روثفيلد أن هولي يرى “الرجولة” مأساة لا قوة، “يعلن الكتاب أن الرجال الأميركيين في وضع عصيب، فهم لا يعملون، ولا يتزوجون، ولا ينشئون أبناء، وإنما يتعاطون المخدرات، ويرثون لحالهم، ويشاهدون الأفلام الإباحية عبر هواتفهم، وتجتمع في خطاب هولي نبرة التعاطف والتقريع، وهو يقول إن الرجال باتوا فاقدي الغرض منعدمي المسؤولية وهو ما سيكون وبالا ًعلى البلد كله، فـ”ما من خطر على هذه الأمة يفوق انهيار الرجولة الأميركية”، وذلك لأن “الحكم الذاتي” لا يمكن أن ينجح ما لم ينشئ المواطنون في أنفسهم “قوة شخصية” والنساء في ما يوحي هولي لا يمتلكن ما يكفي من هذه الموارد لإدارة البلد”.

ترى روثفيلد أن كتاب الرجولة ينضح بالفوضى على جميع المستويات، “فالفواصل بين الفصول عرضية تماماً، وأغلب الفقرات يمكن أن يعاد ترتيبها من دون أي مخاطرة بالتماسك [المفقود بالبديهة]، ويحدد هولي ستة أدوار يجب أن يؤديها الرجال، هي الزوج والأب والمقاتل والبناء والقسيس والملك، لكنه لا يميز مطلقاً بينها تمييزاً واضحاً”.

وعلى رغم صعوبة استخلاص أي بناء حاكم لهذا الكتاب -في تقدير روثفيلد- فإن من الممكن القول إنه يتبنى أربعة مشاريع متمايزة (الأول تفسيره الفاتر للإنجيل، والثاني دعايته الحماسية لنفسه، إذ يحرص على تصوير نفسه رجلاً من الشعب، شارك في رياضات جماعية (كرة القدم) وقضى أجزاء من طفولته في مزرعة جديه، ويسرف في الحديث عن جده المزارع وعمه عامل الخرسانة، مع إهماله عمداً للحديث عن أبيه (فهو مصرفي) أو عن دراسته (فهي في إحدى جامعات النخبة).

..مهاجمة الليبرالية

ثالث مشاريع هولي هو مهاجمة الليبرالية، لكن ليس بوصفها نظاماً سياسياً وإنما بوصفها روحاً شاملة تقوم أساساً على عبادة الاختيار فـ”لا خطيئة لليبراليين إلا خطيئة التعصب”. أما رابع مشاريعه فشبيه بالتنمية الذاتية، وكثير مما في هذا المنحى لا ضرر منه، فمن ذا الذي يجادل في قول هولي بأن تقليل الاستهلاك خير للمرء، أو حتى كلامه المبتذل عن ضرورة أن يكون للمرء هدف في حياته؟ وما الضير من امتداحه الشجاعة والحزم والطموح.

تكتب روثفيلد “أنا أيضاً أعتبر الشجاعة والحزم والطموح من الفضائل، لكن لو أن الرجال لا ينفردون بها، فبأي معنى تعد فضائل رجولية؟”، وتكتب “أن هولي يقول إن الرجل مبني على الالتزام، لكن إذا كان يؤمن أن الرجال ينبغي أن يتزوجوا بنساء، فيفترض به أن يفكر بالتبعية أن النساء أيضاً مبنيات على الالتزام، ويكتب أن الرجال “مخلوقون للقيادة” لكن سفر التكوين يقول إن “الرب وجه الرجل والمرأة إلى الحكم”.

“ما الرجل على أي حال؟”، إجابات هولي عديدة لا تكشف كثيراً، فالرجال اتكاليون لأنه “ما لرجل أن يكون ما ينبغي أن يكونه بمفرده”، لكنهم أيضاً استقلاليون فـ”الاتكال في واقع الأمر غواية لكل رجل في كل عصر بأن يجعل غيره يعمل نيابة عنه”، والرجال لا “يلومون غيرهم، سواء أكان المجتمع أم النظام”، لكن الرجال لديه لا يكفون عن لوم “الليبرالية” في كل شر تقريباً”، و”الرجولة حقيقة وبيولوجيا” لكن بعض فضائل الرجولة المركزية “قابلة للاكتساب”” وهلم جرا من التناقضات، التي ترى روثفيلد أن الكتاب يحفل بها، ولا تفضي في تقديرها إلى نتيجة ملموسة يمكن الاطمئنان إليها.

في استعراضها للكتاب، أو بالأحرى تعريضها به، تنقل ريبيكا أونيون (سليت 18 مايو 2023) عن هولي قوله إن “بوسعك أن تكون مانحاً وحامياً، بوسعك أن تبدأ بإنتاج شيء، احصل على وظيفة، ثم ادفع فواتيرك، ثم ادخر بعض المال، هذه الخطوات البسيطة تقطع بك مسافات طويلة إلى أن تكون الرجل القادر على أن يكون زوجاً” وتنقل عنه قوله “هل تخرج كل ليلة للسهر؟ توقف. هل تنام حتى الضحى؟ استيقظ”. ولا أحسبكم تتوقعون أنها تبرز هذه المقتطفات لتغري القراء بالكتاب وإنما قصدها الواضح أن تدلل على ضحالة الكتاب والكاتب.

..الرشد ما ننشده جميعاً

غير أن هذه النصائح، على ضحالتها، تبقى سديدة، ويبقى اتباعها كفيلاً لا بصنع رجل صالح للزواج ولشتى أدوار الرجال، لكنها صالحة لتكوين شخص جاد في احتمال مسؤولياته، فإن تصادف وكان رجلاً فهو رجل راشد، وإن تصادف وكان امرأة فهي امرأة راشدة. وهذا في ظني ما ينبغي أن ننشده جميعاً: الرشد. أعني أن نتعلم كيف نحترم القيم أنى صادفناها، وأن نغرسها أنى استطعنا غرسها.

لعل هذه العروض الشرسة للكتاب لم تلجأ إلى هذه النبرة الزاعقة والسخرية اللاذعة -لدرجة أن يكتب مراجع أن هولي كتب عن الرجولة و”خبرته في هذا الموضوع صفر”- رفضاً لمفهوم “الرجولة” في ذاته، وإنما رفضاً لتسليح هذا المفهوم، واستعماله لتحقيق أغراض سياسية، ورفضاً لما يمثله هولي نفسه.

وقد لا يكون من الصواب أن يثنينا الانتماء السياسي أو الفكري لكاتب عن التعامل مع ما يكتبه في ذاته وتقييمه بمعزل عن صاحبه ومناقشة أفكاره بموضوعية، وقبول ما يمكن قبوله ورفض ما ينبغي رفضه، ولكني أحسب -بحسن ظن لا بسذاجة- أن كثيراً من هذه الانتقادات كان يمكن أن توجه إلى من يتبنى أفكار هولي وقناعاته مهما يكن جنسه، أو هذا ما ننتظره من الكتابة الراشدة والنقد المجدي.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى