مقالات

أعلى مراحل الثورة ثورة الفرد بالهجرة

رفيق خوري
موجات اللجوء في هذه الأيام ليست عودة لموجات الهجرة في العصور القديمة.
موجات الهجرة كانت رحيل شعوب وقبائل من أرض قاسية إلى أخرى خصبة حول الأنهار وعلى شواطئ البحار.
 شعوب وقبائل ضاقت عليها الجغرافيا فرحلت إلى جغرافيا واسعة صنعت فيها التاريخ، بنت مدناً وأقامت حضارات وانتقلت من اقتصاد الرعي إلى اقتصاد الزراعة.
ولولا الهجرات الواسعة لما ظهرت دول في أميركا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا التي كانت أرضاً لقبائل بدائية. فالمهاجرون يحملون معهم خبرات ومؤهلات يوظفونها في بلدان الهجرة. ستيف جوبز الذي ابتكر أهم تطور تكنولوجي عبر “أبل” هو ابن مهاجر سوري من حمص. الرئيس باراك أوباما هو ابن مهاجر من قبيلة في كينيا. الآباء المؤسسون هم أوروبيون هاجروا إلى العالم الجديد، أميركا.
ومن المفارقات أن البلدان التي أنشأها المهاجرون تضيق هذه الأيام باستقبال مهاجرين ولاجئين وتضع قيوداً على قبول طلباتهم، وقد بلغت عام 2022 نحو مليون طلب إلى أميركا الشمالية ودول الاتحاد الأوروبي، حتى الكوارث التي تضرب اللاجئين عبر “زوارق الموت”، فإنها لا تحول دون تكرار المحاولات.
وإذا كانت أوروبا بدأت تتململ من ضيوفها بعدما استقبلت ألمانيا قبل أعوام مليون ونصف المليون لاجئ سوري، فإن ألمانيا نفسها استفادت من آلاف الأطباء والمهندسين والحرفيين والعمال بينهم، ذلك أن اللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى أميركا الشمالية وأوروبا من أفريقيا وآسيا وبعض دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي، وحالياً من أوكرانيا، ليسوا أعباء، بل دماء جديدة في عروق تحتاج إلى دم جديد. ليسوا مجرد هاربين من قمع وسجن وقتل وظلم وبؤس وبطالة وفقر بمقدار ما هم باحثون عن مستقبل أفضل في حياة جديدة تفيد بلدان اللجوء. فلم يكن سهلاً على ألمانيا أن تنجح في إعادة بناء اقتصادها القوي لولا ملايين الأتراك والكرد الذين جاءت بهم للعمل بعد الحرب العالمية الثانية.
ولا كانت بلدان اللجوء أقل حاجة إلى اللاجئين من حاجة هؤلاء إلى تلك البلدان. وهم، في أية حال، ليسوا بلا قدرات ومؤهلات أو خامات قابلة للتطور ولا كسالى يهربون من بناء بلدانهم الفقيرة للتمتع بحياة أفضل في بلدان بنتها شعوبها من قبل.
يقول المؤرخ الأميركي هوارد زن، “الانشقاق أعلى أنواع الوطنية”. فاللجوء ثورة. ثورة أفراد لا ثورة جماعات. وهذه أعلى مراحل الثورة لأنها تقود إلى ثلاثة متغيرات، أولها تغيير ديموغرافي ينعش البلدان التي يقل فيها عدد السكان، وثانيها تغيير جيو اقتصادي بحيث يسهم اللاجئون في النهضة الاقتصادية وارتفاع نسبة التنمية وتطور الدخل القومي، وثالثها تغيير فكري لجهة التكيف مع الليبرالية والحياة العصرية من جانب اللاجئ الآتي من أفكار مختلفة وإضافة ثقافاته إلى ثقافة البلدان المستضيفة.
يقول أوباما في مذكراته تحت عنوان “أرض موعودة”، “نحن جئنا من كل مكان حاملين كل عناصر التعدد، وهذا كان دائماً وعد أميركا”. فالغرب ليس “المعلم” واللاجئ ليس “التلميذ” من دون تأثير متبادل. ألم يقل جان مونيه “مهندس” السوق المشتركة التي صارت الاتحاد الأوروبي، “لو قُدر لنا أن تبدأ الجماعة الأوروبية من جديد لكان علينا البدء من الثقافة بدل الاقتصاد؟”.
اليوم، وسط الحرب الباردة بين أميركا والصين يقول هنري كيسينجر، “الصين تتوقع وجوب احترام حضارتها القديمة وتقدمها الاقتصادي الحالي، في حين ترى أميركا أن قيمها كونية ويجب تبنيها في كل مكان”. وهذا جهل لا مجرد تجاهل أميركي. ويروى أن الرئيس جون كينيدي سأل رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو عن رأيه في “فيلق السلام” الأميركي الذي مهمته مساعدة الهند من بين بلدان أخرى، فرد نهرو بسخرية، “تجربة جيدة. الشبان الأميركيون يمكن أن يتعلموا الكثير من القرويين الهنود”. انزعج الرئيس الأميركي مما تصورها غطرسة هندية، لكن الواقع أن نهرو رد على غطرسة أميركية.
المهاجرون واللاجئون في العالم صاروا عشرات الملايين. دولة كل الدول. ولا شيء لا حدود ولا قيود، ولا بوليس يمكنه وقف ثورة الهجرة. وقديماً قال أبو تمام في قصيدة، “وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ… لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ”.
أندبندنت عربية

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى