من قلب السجون عُرسٌ آخرٌ يضيء في ليل السجن الطويل
كتب : الأسير الكاتب كميل ابو حنيش سجن ريمون الصهيوني
قبل أسبوع، تمكن الأسير الفلسطيني، ابن مخيم طولكرم “محمد حسين” الملقب “أبو ساري” من عقد قرانه على الآنسة نور، ومع أن هذا الحدث السار ليس حدثًا استثنائيًا في حياة السجن، كما أنه ليس مجرد خبر صحفي يخرج من ساحات الأسر، وإنما يشكل جزءًا من الحكاية الفلسطينية بأبعادها الإنسانية والوطنية والاجتماعية وهي تخوض صراعًا مفتوحًا مع الغزوة الاستعمارية الصهيونية التي تستهدف الوجود الفلسطيني وتشكل خطرًا على مستقبله.
والأسير المناضل “أبو ساري” المحكوم عليه بالسجن مدة 35 عامًا أمضى منها حتى الآن 19 عامًا، هو ابن لأسرة مناضلة، وله شقيقين آخرين يقبعان في الأسر، أحمد المحكوم بالسجن المؤبد، وعدنان المحكوم بالسجن 25 عامًا وأمضى كل منهما حتى الآن 17 عامًا، ويطلق على الأخوة الثلاثة لقب “أبو ساري” الذي صار ملازمًا لهم في ساحات السجون، ساري هو اسم والدهم الذي توفى عام 2008، وثلاثتهم غير متزوجين، فيما تمضي أمهم الحاجة “آمنة الخرمة” في زيارة أبناءها المتوزعين بين السجون بكل عناء المرأة الفلسطينية على الصبر والصمود.
والأسير محمد “أبو ساري” هو شابٌ بسيط وصديق للجميع مبتسم على الدوام، ويعد أحد الكادرات المهمة في الجهاد الإسلامي، ومع أن أبو ساري يمتاز بالدعابة والمرح إلا أنه يخفي في أعماقه أوجاعًا وهمومًا تؤرقه طيلة رحلته الطويلة في السجن، وقد باح لي ولمجموعة من الأصدقاء بما يشتعل في صدره، وأفصح عن خشيته من أن تُحرم العائلة من الأبناء بسبب المدة الطويلة التي يمضيها هو وأشقائه في السجن، لذا فإنه يفكر منذ سنوات بالزواج لإنجاب أطفالٍ أسوةً بغيره من الأسرى الذين نجحوا بإنجاب أطفال بعد تهريب النطف.
بقي أبو ساري لسنوات يعاني هاجس أن يتداركه الزمن هو وإخوته، ويرغب في إدخال الفرحة إلى قلب والدته، بعد أن باتت وحيدة في البيت، بعد وفاة والده وزواج شقيقاته، فالحاجة آمنة باتت تتقدم في السن وتحيا وحيدة في بيتها انتظارًا لتحرر أبنائها من السجن.
ومنذ سنوات صارح والدته بهذه الرغبة، وألح عليها أن تبحث له عن عروس تقبل الزواج بأسير يمضي حكمًا عاليًا وبمبدأ الإنجاب من خلال عملية زراعة النطف، غير أن والدته ترددت كثيرًا أمام رغبة ابنها، وبعد أن ضاقت بهواجسه من انقطاع نسله قالت له ساخرة: “يعني يا ابني إنت خايف على نسل صلاح الدين ينقرض؟؟” صارت عبارة الحاجة آمنة الخرمة “أم محمد” شائعة على ألسنتنا نتنذر بها بدعابة على صديقنا أبو ساري ويقابل هو بدوره هذه الدعابات برحابة صدر وبابتسامة ممزوجة بالألم، كانت هذه العبارة العذبة تلخص وجهًا آخرًا من سخريات الأمهات، اللواتي رغم سنوات المعاناة والحرمان من الأبناء، يجدن مساحة للتنذر والسخرية من رغبات الأبناء، ورغم ما تسببوا به لهنّ من متاعب ومعانيات.
غير أن أبو ساري لم يستسلم، وظل عنيدًا في مطاردة الحلم، كان يحلم ليل نهار بإنجاب ابن يسميه “ساري” على اسم والده المتوفي، أو ابنة يسميها “آمنة” على اسم والدته التي أعياها وجع الانتظار، وطوال السنوات الماضية انتظر أبو ساري تحرره من الأسر، غير أن الرحلة طالت، وتأخرت صفقة التبادل المنتظرة، وظل يبحث ويلحُّ في الطلب إلى أن عثر على مبتغاه، كانت نور، ابنة عمته قد قبلت بالزواج منه، تلك الفتاة الجامعية قررت أن تهب نفسها عروسًا لأسير يقبع لسنوات طويلة خلف الجدران، وبهذا أثبتت العروس أن المرأة لا تقل فدائيةً عن الأسير، لا تقل المرأة تضحية عن الرجال.
يوم الجمعة الماضي الموافق 28/08/2020، تم موعد عقد قران العروسين، وكانت الحاجة آمنة على رأس الجاهة التي توجهت لبيت العروس، وقفت آمنة بصلابة وسط الرجال وبكل ثقةٍ وكبرياء طلبت يد العروس لإبنها الأسير، وقفت شامخةً وسط الرجال، فخورة بأبنائها الأسرى، وتم عقد القران وسط حالة من الفرح والبهجة، وفي اليوم التالي جرت مراسم الزفاف الرمزي، واحتفلنا نحن بدورنا وعلى طريقتنا الخاصة بالعريس، وتناولنا الحلويات ابتهاجًا بهذه المناسبة السعيدة.
وبهذا المشهد تمتزج المرارة بالفرح، لقد تمكن أبو ساري من صناعة يومه الأجمل في السجن، فنحن الذين نحيا الانتظار بصورته المفجعة نحن الذين لا نكف عن الحلم وإن بدا بعيد المنال، نصنع الحياة بأفراحٍ مؤجلة ونسأل الزمن كم تبقى لنا في حلقاته الدائرية، يسرق السجن منا أغلى سنوات العمر، يحوّلنا إلى مجرد أرقام، يمتدح البعض بطولاتنا الخارقة وقدراتنا الفذة على الاحتمال، ولكن أبا ساري قرر مساءً مغايرًا ومعلنًا: أنا لستُ رقمًا، كما أنني لستُ جنرالًا ولا بطلًا وهميًا، أخشى انقطاع نسلي إن طالت سنوات السجن، فلا صلاح الدين ولا غيره أفضل مني.
في اليوم التالي سينتقل أبو ساري من خانة الأسرى العازبين إلى خانة الأسرى المتزوجين، بلا أية طقوس، وبلا أية علاماتٍ تفضح ولوجه لعش الزوجية، يخرج كل يوم من غرفته إلى الساحة بشكلٍ اعتيادي لكنه يبدو أكثر إتزانًا بعد أن صار عريسًا، أما ابتسامته الواسعة فقد بقيت مثل قوس قزح تفصح عن بتولته في هذا الشكل من الزواج على طريقة الأسر الفلسطينية.
ومن الآن فصاعدًا سينتظر أبو ساري ولادة ساري أو آمنة، أو كليهما معًا، فلا زالت هناك مساحة من الحلم وإن كانت ولادته عسيرة أحيانًا ومن خاصرة الحياة، ولا شيء سوى الحكاية الفلسطينية الفسيفسائية بأوجاعها ومتاعبها وأحلامها وآمالها وبساطتها وتعقيداتها.
أما الحاجة آمنة الخرمة فإنها وكسائر الأمهات، ستنتظر الأحفاد الذين يبددون عنها وحدتها، وستشاركها العروس نور البيت، صار لديها من يشاطرها عبء الزمن، ويشاركها حمل الانتظار الثقيل، وسيكون لابنها أبناءً من صلبه، أما صلاح الدين وغيره من الأبطال فليسوا أفضل من ابنها، وليسوا أكثر بطولةً منه.